[right]الوصية بكتاب الله تعالى ( القرآن الكريم )
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه وصفوته من خلقه ؛ نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه ، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين ، أما بعد :
فإن كتاب الله فيه الهدى والنور ، وهو حبله المتين ، وصراطه المستقيم ، وهو ذكره الحكيم ؛ من تمسك به نجا ، ومن حاد عنه هلك ، يقول الله - عز وجل - في هذا الكتاب العظيم : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً[1].
هذا كتاب الله يهدي للتي هي أقوم ؛ يعني : للطريقة التي هي أقوم ، والمسلك الذي هو أقوم ، الذي هو خير الطرق وأقومها وأهداها ، فهو يهدي إليه ، يعني : يرشد إليه ، ويدل عليه ويدعو إليه ؛ وهو توحيد الله وطاعته ، وترك معصيته ، والوقوف عند حدوده ، هذا هو الطريق الأقوم ، وهو المسلك الذي به النجاة .
أنزله الله جل وعلا تبياناً لكل شيء ، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ، كما قال - سبحانه - في سورة النحل : وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[2] .
فهو تبيان لكل شيء ، وهدى إلى طريق السعادة ، ورحمة وبشرى ، ويقول - جل وعلا - : قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ[3] ؛ هدىً لقلوبهم للحق ، وشفاء لقلوبهم من أمراض الشرك والمعاصي والبدع والانحرافات عن الحق ، وشفاء للأبدان من كثير من الأمراض .
وهو بشرى للإنس والجن ، لكنه - سبحانه - ذكر المؤمنين ؛ لأنهم هم الذين اهتدوا به وانتفعوا به ، وإلا فهو شفاء للجميع ، كما قال - جل وعلا - : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً[4] .
فالقرآن شفاء ودواء للقلوب من جميع الأدواء المتنوعة ؛ أدواء الشرك والمعاصي ، والبدع والمخالفات ، وهو شفاء لأمراض الأبدان أيضاً ، وأمراض المجتمعات ؛ شفاء لأمراض المجتمع وأمراض البدن ، لمن صلحت نيته وأراد الله شفاءه ، يقول - جل وعلا - : الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ[5] .
فهو كتاب يخرج الله به الناس من الظلمات ؛ من ظلمات الشرك والمعاصي ، والفرقة والاختلاف ، إلى نور الحق والهدى ، والاجتماع على الخير ، والتعاون على البر والتقوى، وهذا هو صراط الله المستقيم ، وهو توحيد الله ، وأداء فرائضه وترك محارمه ، والتواصي بحقه والحذر من معاصيه ومن مخالفة أمره ، هذا هو صراط الله المستقيم ، وهذا هو النور والهدى ، وهذا هو الطريق الأقوم ، وقال - سبحانه - في سورة الأنبياء : وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ[6] ، وقال - سبحانه - في سورة يس : إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ[7] .
والمقصود : أن الله - جل وعلا - جعل كتابه ذكراً ، وجعله نذارة ، وجعله شفاءً ، وجعله هدى ؛ فالواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس أن يهتدوا به ، وأن يستقيموا عليه ، وأن يحذروا مخالفته ، قال - جل وعلا - : كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ[8] ، وقال - سبحانه - : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [9] ، وقال - جل وعلا - : أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[10] .
وسئلت عائشة - رضي الله عنها – فقيل لها : يا أم المؤمنين : ماذا كان خُلُق النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت : (( كان خلقه القرآن )) ، قال - تعالى - : وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [11] .
والمعنى : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتدبر القرآن ، ويكثر من تلاوته ، ويعمل بما فيه ؛ فكان خلقه القرآن ؛ تلاوة وتدبراً ، وعملاً بأوامره وتركاً لنواهيه ، وترغيباً في طاعة الله ورسوله ، ودعوة إلى الخير ، ونصيحة لله ولعباده ، إلى غير ذلك من وجوه الخير .
وقال - تعالى - : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ[12] . فالقرآن هو أحسن القصص ، وهو خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ونصيحتي لجميع المسلمين - رجالاً ونساءً ، جناً وإنساً ، عرباً وعجماً ، علماء ومتعلمين - نصيحتي للجميع : أن يعتنوا بالقرآن الكريم ، وأن يكثروا من تلاوته بالتدبر والتعقل ، بالليل والنهار ، ولا سيما في الأوقات المناسبة التي فيها القلوب حاضرة للتدبر والتعقل ، والذي لا يحفظه يقرأه من المصحف ، والذي لا يحفظ إلا البعض ، يقرأ ما يتيسر منه ؛ قال - تعالى - : فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ[13] .
وإذا كان يعرف الحروف يتهجى ؛ ويقرأ من المصحف حتى يتعلم زيادة ، والذي لا يعلم يتعلم من أمه أو أبيه أو ولده أو زوجته - إن كانت أعلم منه - والتي لا تعرف يعلمها أبوها أو أخوها أو زوجها أو أختها أو غيرهم .
وهكذا يتواصى الناس ويتعاونون ؛ الزوج يعين زوجته ، والزوجة تعين زوجها ، والأب يعين ولده ، والولد يعين أباه ، والأخ يعين أخاه ، والخال والخالة ، وهكذا الكل يتعاونون ويتواصون بهذا الكتاب العظيم ؛ تدبراً وتعقلاً وعملاً ؛ لقول الله - عز وجل - : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[14] ، وقوله - سبحانه - : وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [15] .
ولما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للناس في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع : ((إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به ؛ كتاب الله ))[16] . هكذا يوصيهم - عليه الصلاة والسلام - بكتاب الله ، ويخبرهم أنهم لن يضلوا إن اعتصموا به ، وفي اللفظ الآخر : ((كتاب الله وسنتي))[17] . وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الله ؛ لأن الله - سبحانه - يقول : أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ[18] .
فكتاب الله يأمر بطاعة الله وطاعة رسوله ، قال - تعالى - : قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ[19] ، ويقول - جل وعلا - : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا[20] ، ويقول : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ[21] .
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أوصى بالقرآن ؛ فوصيته بالقرآن وصية بالسنة ، وهي : أقواله وأفعاله وتقريراته – كما تقدم - .
ويروى عن علي - رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( تكون فتن )) ، فقيل له : يا رسول الله : فما المخرج منها ؟ قال : (( كتاب الله ؛ فيه نبأ ما كان قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ... ))[22] . الحديث .
فهو المخرج من جميع الفتن ، وهو الدال على سبيل النجاة ، وهو المرشد إلى أسباب السعادة ، والمحذِّر من أسباب الهلاك ، وهو الداعي إلى جمع الكلمة ، وهو المحذر من الفرقة والاختلاف ، قال - تعالى - : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء [23] ، ويقول - جل وعلا - في هذا الكتاب العظيم : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات[24] ، ويقول – سبحانه وتعالى- : واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا[25] .
فهو يدعو إلى الاجتماع على الحق ، والتواصي بالحق ، كما قال - سبحانه - : والعصر. إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [26] .
وهذه السورة العظيمة القصيرة قد جمعت الخير كله ، ما أبقت شيئاً من الخير إلا ذكرته ، ولا شيئاً من الشر إلا وحذرت منه .
وهؤلاء المستثنون فيها هم الرابحون ؛ من الجن والإنس ، من الذكور والإناث ، من العرب والعجم ، من التجار والفقراء ، من الأمراء وغيرهم ، هم الرابحون ، وهم الناجون من الخسران ، وهم الذين اتصفوا بأربع صفات ، وهي : الإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر .
وهؤلاء هم السالمون من الخسران ، ومن عداهم خاسر على حسب ما فاته من هذه الصفات الأربع .
فمن آمن بالله ورسوله ، وصدَّق الله في أخباره ، وصدّق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه ، وآمن بكل ما أخبر الله به ورسوله من أمر الآخرة والجنة والنار والحساب والجزاء وغير ذلك ، وآمن بأن الله - سبحانه – هو المستحق للعبادة ، وأنه واحد لا شريك له ، وأن العبادة حقه ، وأنه لا تجوز العبادة لغيره ، وصدق بهذا .
كما أخبر الله في كتابه العظيم ، حيث قال - سبحانه - : فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ[27]، وقال - تعالى - : وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[28] ، وقال - سبحانه -: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[29] ، وقال - تعالى - : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[30] ، وقال - تعالى - : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[31] ، وقال - سبحانه - : اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ[32] ، وقال - سبحانه - : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[33] ، وقال عز وجل : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ[34] .
فهذا هو أصل الدين وأساس الملة ؛ أن تؤمن بأن الله هو الخالق والرازق ، وأنه هو المعبود الحق ، وأنه - سبحانه - له الأسماء الحسنى والصفات العلى ؛ لا شبيه له ولا كفو له ، ولا شريك له في العبادة ولا في الملك والتدبير .
كما - قال سبحانه - : اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[35] ، وقال - سبحانه - : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ .
اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ[36] ، وقال - سبحانه - : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[37] ، وقال - سبحانه - في سورة الحج : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ[38] ، وقال - سبحانه - : وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً[39] .
والآيات في هذا المعنى كثيرة .
والخلاصة : أن الواجب على كل مكلف من الجن والإنس أن يخص الله بالعبادة ، وأن يؤمن إيماناً قاطعاً بأنه الخلاق الرزاق ، لا خالق إلا الله ، ولا رب سواه ، وأنه - سبحانه - المستحق للعبادة ، لا يستحقها أحد سواه ، وهو المستحق لأن يعبد ؛ بالدعاء والخوف والرجاء والصلاة ، والصوم ، والذبح والنذر ، وغيرها ، كلٌ لله وحده لا شريك له ، قال - تعالى - : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا[40] ، وقال - تعالى - : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[41] .
وهذا هو معنى لا إله إلا الله ؛ فإن معناها : لا معبود بحق إلا الله ، كما قال - تعالى - : فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ[42] ؛ يعني : فاعلم أنه لا معبود بحق إلا الله ، فهو المستحق أن يعبد .
ومن عبد الأصنام ، أو أصحاب القبور ، أو الأشجار أو الأحجار ، أو الملائكة أو الأنبياء، فقد أشرك بالله ، وقد نقض قول لا إله إلا الله وخالفها ، وقد خالف قوله - تعالى - : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[43] ، وخالف قوله - تعالى - : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[44] .
فصار من جملة المشركين ؛ عُبَّاد القبور ، والأصنام والأشجار والأحجار ، الذين يستغيثون بأصحاب القبور ويتبركون بقبورهم ، ويدعونهم أو يطوفون بقبورهم يرجون نفعهم وثوابهم ، أو يستغيثون بهم ، أو يطلبون منهم الولد أو المدد ، أو ما أشبه ذلك مما يفعله عبّاد القبور ، وعبّاد الأصنام ، أو يستغيثون بالنجوم ، أو بالجن أو بالملائكة أو بالأنبياء ، أو بغيرهم من المخلوقات .
كل هذا نقض لقول لا إله إلا الله ، وشرك بالله ينافي التوحيد ويضاده ، ومخالف لقول الله - جل وعلا - وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[45] ، وقوله - تعالى - : وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[46] ، ولقوله - تعالى - : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[47] ، وقوله - سبحانه - : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[48] ، وقوله - تعالى - : وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[49] .
فلابد من توحيد الله ، والإخلاص له في صلاتك ، وصومك ، وسائر عباداتك ، وفي ذبحك ، ونذرك ، وخوفك ورجائك ، لابد في كل ذلك من ترك الإشراك بالله والحذر منه ، مع الإيمان بالله - ربك - وأنه خالقك ؛ لا خالق غيره ، ولا رب سواه ، مع الإيمان بأسمائه وصفاته ، وأنه - سبحانه - ذو الصفات العلى والأسماء الحسنى ؛ لا شبيه له ، ولا كفو له ولا ند له .
كما قال - سبحانه وتعالى - : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها[50] ، وقال - تعالى - : فلا تجعلوا لله أنداداً[51] ، والمراد : أشباه ونظراء ، وقال - تعالى : - ليس كمثله شيء وهو السميع البصير[52] ، وقال - تعالى - : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ[53] .
وعليه - أيضاً - أن يؤمن بأن كل إنسان مكلف ، يجب أن يؤمن بأن الله - سبحانه - هو خالقه وموجده ، وأنه خالق كل شيء ومالكه ، وأنه هو المستحق أن يعبده ، وأنه هو الإله الحق ، وهو المعبود بالحق .
ولا يكون المرء مؤمناً إيماناً كاملاً ، إلا إذا اعتقد أنه - سبحانه - له الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وأن أسماءه كلها حسنى ، وصفاته كلها عُلى ، وأنه لا شبيه له ، ولا مِثْل له ، ولا كفؤ له .
كما قال - سبحانه - : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ وقال - تعالى - : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً[54] ؛ يعني لا سمي له ، ولا كفؤاً له ، ولا شريك له .
وقال - تعالى - : فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون [55] . والمعنى : لا تجعلوا له أشباهاً ونظراء تدعونهم معه .
وقال - سبحانه وتعالى - : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [56] ؛ فهو يسمع أقوال عباده ويسمع دعاءهم ، ويراهم ، ومع ذلك لا شبيه له في ذاته ، ولا في أسمائه ، ولا في سمعه وبصره ، ولا في جميع صفاته ؛ فهو الكامل في كل شيء ، وخلقه لهم النقص، أما الكمال فهو له - سبحانه وتعالى - في كل الأمور .
فعليك بتدبر القرآن حتى تعرف هذا المعنى ، تدبر القرآن من أوله إلى آخره ؛ من الفاتحة - وهي أعظم سورة في القرآن ، وأفضل سورة فيه - إلى آخر ما في المصحف : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، والمعوذتين .
تدبر القرآن ، واقرأه بتدبر وتعقل ، ورغبة في العمل والفائدة ، لا تقرأه بقلب غافل ، اقرأه بقلب حاضر بتفهم وبتعقل ، واسأل عما أشكل عليك ؛ اسأل أهل العلم عما أشكل عليك ، مع أن أكثره – بحمد الله – واضح للعامة والخاصة ممن يعرف اللغة العربية.
مثل قوله - جل وعلا - : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ[57] ، وقوله - تعالى - : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [58] ، وقوله - سبحانه - : من يطع الرسول فقد أطاع الله[59] ، وقوله - عز وجل - : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ[60] ، وقوله - تعالى - : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [61] ، وقوله - سبحانه - : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً[62] ، وقوله - تعالى - : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[63] ، وقوله - عز وجل - : وأحل الله البيع وحرم الربا[64] .
فكله آيات واضحات ، بيّن الله سبحانه وتعالى فيها ما حرم على عباده وما أحل لهم ، وما أمرهم به وما نهاهم عنه .
وهكذا حرَّم الله الظلم ، فقال - تعالى - : وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ[65] ، وقوله - سبحانه - : وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً[66] .
فعليك يا عبد الله أن لا تظلم الناس ؛ لا في أنفسهم ولا في أعراضهم ولا في أموالهم ، احذر الظلم ؛ فعاقبته وخيمة ، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله ))[67] .
فاحذر ؛ لا تعتد على الفقير أو تخونه ، أو تخون غير الفقير ، اتق الظلم في المعاملات وفي كل شيء ؛ لا تظلم عمالاً ، إذا كنت صاحب شركة أو عندك عمال في بيتك ؛ أعطهم حقوقهم وأوف لهم بالشروط ؛ فشروطهم أعطهم إياها - سواء كنت مدير شركة أو صاحب عمال في بيتك أو في مزرعتك - فاتق الله فيهم ، لا تستضعفهم فتخونهم ، وهكذا في جميع شئونك ، لا تكن خائناً ولا غشاشاً في بيعك وشرائك .
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( من غشنا فليس منا ))[68] ، ويقول الله - جل وعلا - : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَ[69] ، ويقول - سبحانه - في وصف المؤمنين : وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ[70] ، ويقول - جل وعلا - : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[71] . فإذا كنت وكيلاً لإنسان في مزرعته أو شركة أو غير ذلك فلا تخنه ، انصح وأدِّ الواجب ، ولا تأخذ من حقه شيئاً إلا بإذنه ، وهكذا في جميع الأشياء ؛ كالوكيل في البيع أو الشراء، يجب عليه أن ينصح في ذلك ؛ في الإجارة انصح ، ولا تخن في أي شيء ، في بيع ثمار النخل ، في أي شيء انصح قال تعالى : وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ[72] .
وإذا كان عليك دين فاتق الله في أداء الدين ، لا تقل إنني لا أستطيع - وأنت تكذب – اتق الله وأد الدين لمستحقه ؛ فأنت مأمور بذلك ؛ مأمور أن تؤد الحقوق وأن توفي بالعقود يقول الله - جل وعلا - : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ[73] ؛ زكاة نفوسهم وزكاة أموالهم . وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ[74] ؛ أي : يحفظون الفروج من الزنا واللواط وسائر المعاصي ، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ[75] ؛ يرعون الأمانات والعهود حتى يؤدوها كما شرع الله . وهكذا الكلام السري هو من الأمانات ، فلا تتكلم به ولا تفش السر ، ومن قال افعل كذا وكذا ولا تخبر به أحداً ، فإن ذلك يكون سراً بينك وبينه ، فلا تخنه ، ولا تخن أمانة السر التي ليس فيها ضرر على أحد .
ومن أوصاك على عياله أو أوصاك على مزرعته فأد الحق ، وراقب الله في ذلك ؛ فإن الله - سبحانه - رقيب عليك ، وإذا اقترضت من إنسان حاجات فأد حقه إليه ، ولا تخنه في ذلك ، واتق الله وأعطه جميع الحاجات التي أخذتها منه أو ثمنها – إن كنت أخذتها بالشراء – ولا تجحد ما عندك له إذا كان قد نسيه ، بل أعطه إياه ، وقل : إن هذا لك عندي ثمن كذا وثمن كذا ؛ قال - تعالى - : وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ[76] .