أم المؤمنين سودة بنت زمعة .. المهاجرةُ أرملةُ المهاجر
**********************************************
هي سودة بنت زمعة بن قيس بن عمرو.. وزوجها ابن عمها السكران بن عمرو.
وهى أول امرأة تزوجها الرسول بعد خديجة، وبها نزلت آية الحجاب.
لُقِّبت بالمهاجرة أرملة المهاجر، لأنها أسلمت وهاجرت بدينها إلى الحبشة مع زوجها السكران بن عمرو بن عبد شمس، وتحملت مشاق الهجرة ومتاعب الغربة.
أسلم الاثنان في مكة، وتعرضا (مثل بقية المؤمنين) لأشد صنوف العذاب والاضطهاد..
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه النفر القليل الذين آمنوا معه، مازالوا يذكرون النفر الثمانية من بني عامر، يخرجون من ديارهم وأموالهم، يجوزون القفر المرهوب ويركبون أهوال البحر لينجوا بدينهم من مطاردة مجنونة آثمة، تحاول أن تردهم قسرا إلى متاهة الضلال ومهواة الشرك.
هؤلاء النفر هم: السكران وزوجه سودة وأخوها مالك، وأخواه سليط وحاطب وابن أخيه عبد الله بن سهيل بن عمرو. وصحب ثلاثة من الثمانية زوجاتهم، وكلهن عامريات.
وتـمرّ الأيام ثقيلة على مهاجري الحبشة في دار غير ديارهم.. وبين قوم غرباء عنهم.. حتى وصلت إليهم الأخبار تحمل نبأ دخول أكثر أبناء قريش في الإسلام.. ورأى نفر من المهاجرين (والفرحة لا تكاد تسعهم) أن يعودوا إلى مكة إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم وإلى قومهم وبلدهم.. وكان من هؤلاء السكران وزوجه سودة.
وقبل أن يصلوا إلى مكة وصلتهم الأخبار بأن نفرا قليلا دخل الإسلام، وأن قريشا ضاعفت إيذاءها للمسلمين.. وحاصرتهم ومن انضم إليهم في شعب أبي طالب.. فقرر نفر من هؤلاء العودة إلى دار هجرتهم في الحبشة.. بينما قرر السكران وزوجه دخول مكة ليلاقيا ما يلاقيه المسلمون فيها من أذى وعذاب وحصار..
وما أن استقر المقام بالأسرة المجاهدة في مكة حتى توفى السكران.. وبقيت إلى جانبه زوجه سودة تبكيه فقد كان ابن عمها ورفيق دربها في الإيمان والهجرة.. وها هو يدفن في ثرى مكة، مرقد من مضوا من أهله وأصحابه.. ويترك أرملته من بعده، قد أسلمتها محنة الاغتراب إلى محنة الترمل.
وأمست سودة وحيدة لا عائل لها ولامعين، فأبوها مازال على كفره وضلاله، ولم يزل أخوها عبد اللَّه بن زمعة على دين آبائه، فخشيت أن يفتناها في دينها.
وكانت من أهم الأحداث التي وقعت في تلك الفترة وفاة أبي طالب عم رسول الله [الذي كفله صغيرا، وآزره كبيرا، وناصره على دعوته، وحماه من عوادي المشركين] ، ووفاة السيدة خديجة زوج النبي التي صدقته وآمنت به وكانت له وزير صدق طول سني كفاحه وجهاده.
******************************************************
عام الحزن وزواجها من رسول الله
----------------------------------------
وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما المشركون فقد تجرأوا عليه، كاشفوه بالنكال والأذى.. ورسول الله يقول: ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب.. وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه هذا بعام الحزن..
كان الصحابة يرقبون آثار الحزن على وجه النبي صلى الله عليه وسلم فيشفقون عليه من تلك الوحدة.. ويودون لو يتزوج، لعلّ في الزواج ما يؤنس وحشته بعد أم المؤمنين الراحلة.
وجاءت خولة بنت حكيم السلمية إلى النبي تعرض عليه أن يتزوج.. ويقول رسول الله: ومن بعد خديجة...؟
وتقول خولة: عائشة.. بنت أحب الناس إليك، تخطبها اليوم ثم تنتظر حتى تنضج.. وسودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس.. وأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبتهما.
ولكن هل تستطيع سودة أن تـملأ من فؤاد النبي وأبنائه وبيته ما كانت تشغله خديجة..؟
لم يتصور ذلك أحد.. فقد كانت امرأة مسنة في نحو ست وستين سنة، ولكنها من المؤمنات المهاجرات الهاجرات لأهليهن خوف الفتنة، ولو عادت إلى أهلها لأكرهوها على الشرك أو عذبوها عذابا نكرا ليفتنوها عن دينها.. خشي عليها بطش أهلها، وهم أعداء الإسلام والمسلمين، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يرحمها وينجدها من عذابها، ويعينها على حزنها، ويجزيها على إسلامها وإيمانها خيرًا.. فاختار النبي صلى الله عليه وسلم كفالتها.
فلما فرغت من عدتها، أرسل إليها خولة بنت حكيم رضي اللَّه عنها تخطبها له، وكانت سودة قد بلغت من العمر حينئذٍ السادسة والستين، بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمسين من عمره.
وحين دخلت خولة عليها قالت: ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة !ا
قالت سودة: وماذاك؟
فقالت خولة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلنى إليك لأخطبك إليه.
قالت: وددت ذلك.
فقالت خولة: دخلت على أبيها وكان شيخًا كبيرًا مازال على جاهليته وحيَّيْتُه بتحية أهل الجاهلية، فقلت: أنعِم صباحًا.
فقال: من أنت؟
قلت: خولة بنت حكيم.
فرحَّب بي، وقال ما شاء الله أن يقول.
فقلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يذكر سودة بنة زمعة.
فقال: هو كفء كريم، فما تقول صاحبتك؟
قلت: تُحِبُّ ذلك.
قال: ادعوها إلي.
ولما جاءت قال: أي سودةُ، زعمت هذه أن محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب أرسل يخطبك وهو كفء كريم، أفتحبين أن أزوجكه؟
قالت: نعم. قال: فادعوه لي.
فدعته خولة، فجاء فزوَّجه.
رواه أحمد (26517 ) وهو حسن
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] بنت زمعة&SearchType=root&Scope=all&Offset=60&SearchLevel=QBE
***
ا(وفى رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبها، فقالت: أمري إليك، فقال لها مُري رجلا من قومك يزوجك، فأمرت حاطب بن عمرو (وهو ابن عمها وأول مهاجر إلى الحبشة) فزوجها. الطبقات الكبرى لابن سعد ج 8 / ص 53)ا
***
ولقد قابل الناس هذه الالتفاتة من الرسول الكريم بالإعجاب والثناء، وخفف قومها بنو عبد شمس (أعداء الرسول وأعداء بني هاشم) من غلوائهم في عداوة صاحب الدعوة ومخاصمته، وأُنقذت هي مما كان ينتظرها من الضياع.
لقد كانت سودة تدرك تـماما، أن حظها من رسول الله بـرٌ ورحمةٌ وإكرامٌ.. لا حب وتآلف وامتزاج.. وقبلت الدور، فحسبها أن رفعها رسول الله إلى تلك المكانة، وأن جعل منها أما للمؤمنين.
ودخلت السيدة سودة بنت زمعة رضي الله عنها بيت النبوة، وأصبحت واحدة من أمهات المؤمنين، وكانت الزوجة الثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنوات.
وكانت السيدة سودة مثالا نادرًا في التفاني في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم وابنته أم كلثوم وفاطمة، فكانت تقوم على رعايتهما بكل إخلاص ووفاء، وقدمت سودة كل ما في وسعها لخدمة النبي والسهر على راحته ورعاية أبنائه ليتفرغ هو إلى جهاده وأداء رسالته، ثم هاجرت مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وكانت السيدة سودة ذات فطرة طيبة ومرح، وكانت ممتلئة الجسم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما رآها تمشي ضحك لمشيتها، فكانت تكثر المشي أمامه كي تضحكه، وتُدخل السرور عليه، وكانت تنتقى من الكلمات ما تظن أنه يضحكه.
ومن قبيل ذلك ما أورده ابن سعد في الطبقات أنها صلّت خلف النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرّة في تهجّده ، فثقلت عليها الصلاة ، فلما أصبحت قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
يَا رَسُوْلَ اللهِ! صَلَّيْتُ خَلْفَكَ البَارِحَةَ، فَرَكَعْتَ بِي حَتَّى أَمْسَكْتُ بِأَنْفِي مَخَافَةَ أَنْ يَقْطُرَ الدَّمُ.
فَضَحِكَ، وَكَانَتْ تُضْحِكُهُ الأَحْيَانَ بِالشَّيْءِ.
* * *
وكانت السيدة سودة رضي اللَّه عنها تحبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حبَّا شديدًا، وكانت تسعى إلى مرضاته دائمًا، فلما كبرت في السن، ولم تعد بها إلى الأزواج حاجَةً، وأحست بعجزها عن الوفاء بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم، أراد النبى أن يعفيها من واجباتها الزوجية
فبَعَثَ إِلَى سَوْدَةَ بِطَلاقِهَا.
فَجَلَسَتْ عَلَى طَرِيْقِهِ، فَقَالَتْ: أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ كِتَابَهُ، لِمَ طَلَّقْتَنِي؟ أَلِمَوْجِدَةٍ؟
قَالَ: لاَ.
قَالَتْ: فَأَنْشُدُكَ اللهَ لَمَا رَاجَعْتَنِي، فَلاَ حَاجَةَ لِي فِي الرِّجَالِ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُبْعَثَ فِي نِسَائِكَ، فَرَاجَعَهَا.
قَالَتْ: فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي لِعَائِشَةَ.
فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصالحها على ذلك.