قالوا: هناك بدع مباحة، مثل التوسع في ألوان الطعام والشراب والمركوبات والملبوسات والمساكن وغيرها، قالوا: هذه مباحات، لكنها بدع؛ لأنها لا توجد على عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، نقول: هذه ليست ببدع؛ لأن البدع خاص فيما يتعبد به، أما ما يزاوله الناس في أمورهم الحياتية العادية التي لا يتعبدون بها فالأصل فيها الإباحة، والله -جل وعلا- خلق لنا ما في الأرض جميعاً، فالأصل في مثل هذه الأمور الإباحة ولا يمكن أن يطلق عليها بدعة، القول بأن هناك بدع واجبة، أو بدع مستحبة لا شك أنه مصادمة لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((وكل بدعةٍ ضلالة)) الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: كل البدع ضلالة ونحن نقول: بدع واجبة، هذا محادة لرسول الله -عليه الصلاة والسلام-، فلا يقال: بمثل هذا القول، بل القول هذا ضعيف، وقد ردّه الشاطبي في الاعتصام، وقوّض دعائمه، وقال: إنه قول مخترع مبتدع، لا يدل عليه دليل من الكتاب ولا من السنة، فالتقسيم مبتدع داخل في قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((كل بدعةٍ ضلالة)) كيف يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((كل بدعةٍ ضلالة)) ونحن نقول: هناك بدع مستحبة، بدع محمودة، بدع واجبة، أبداً، لا يمكن أن يتصور مثل هذا مع قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((كل بدعةٍ ضلالة)) يتشبثون -أعني الذين يقسمون هذا التقسيم -بقول عمر -رضي الله تعالى عنه- في صلاة التراويح، النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى صلاة التراويح بأصحابه ليلة، فاجتمع إليه فئام من الناس، ثم صلى بهم الثانية، وهم أكثر من العدد السابق، ثم اجتمعوا في الليلة الثالثة حتى غصّ بهم المسجد، فلم يخرج إليهم، خشية أن تفرض عليهم، وهذا من رأفته ورحمته -عليه الصلاة والسلام- بأمته، استمر الأمر على ذلك بقية عهده -عليه الصلاة والسلام-، وجميع خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر -رضي الله تعالى عنه-، ثم إن عمر -رضي الله تعالى عنه- لما أمن من فرضية صلاة التراويح بموته -عليه الصلاة والسلام- جمعهم على إمامٍ واحد، ثم خرج في ليلةٍ من الليالي وهم يصلون مجتمعين صافون متراصون كما تصف الملائكة، وهذا مما يحبه الله -جل وعلا- أعجبه هذا الوضع، فقال: "نعمت البدعة" فإثبات كون صلاة التراويح بدعة، والإخبار عنها بأنها أو وصفها بأنها (نعمت) ونعم حرف مدح، إذاً هذه البدعة ممدوحة ومحمودة، وهذا معوّل من يرى أن في البدع ما يحمد، وأن فيها ما يمدح؛ لأن عمر قال: "نعمت" ونعم حرف مدح، بخلاف بئس الذي هو حرف ذم، أو فعل على الخلاف فيهما هل هما فعلان أو حرفان؟ المقصود أنه يشعر بالمدح، وهذا معوّل من يرى أنه من البدع ما يمدح، شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: هذه بدعة لغوية، البدعة في كلام عمر -رضي الله تعالى عنه-: بدعة لغوية، وليست شرعية، فلا مستمسك فيها لقول من يقسّم البدع، وأما الشاطبي ففي الاعتصام يرى أن بدعة على سبيل المجاز، لا على سبيل الحقيقة، يعني عند من يقول بالمجاز لا إشكال في أن يقول هذا الكلام مجاز؛ لأنه استعمال للفظ في غير ما وضع له، لكن الذي لا يرى المجاز وهو المرجح عند أئمة التحقيق، والذي نصره شيخ الإسلام وابن القيم وجمع غفير من أهل العلم، الذي لا يقول بالمجاز، كيف يقول مجاز؟ أولاً كلام شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في أنها بدعة لغوية، في تقديري أنه غير متجه، لماذا؟ لأن البدعة لغةً: ما عمل على غير مثالٍ سابق، وصلاة التراويح التي جمع عمر -رضي الله تعالى عنه- الناس عليها عملت على مثالٍ سبق في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى بهم الليلة الأولى والثانية ولم يخرج إليهم في الليلة الثالثة، فعملت على مثالٍ سبق على هذه الكيفية، يعني جماعة، فلا يقال: أنها بدعة لغوية؛ لأنها عملت على مثالٍ سبق، وليست بدعة شرعية قطعاً لأنها ثبتت من فعله -عليه الصلاة والسلام-، فليست ببدعة.
وبعض الشرّاح ممن عاشوا في بعض البيئات المتأثرة بالمبتدعة قال: وأساء إلى أمير المؤمنين عمر -رضي الله تعالى عنه-، قال: والبدعة قبيحة، ولو كانت من عمر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-، لكن هل عمر يرى أن هذه بدعة مصادمة لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((كل بدعةٍ ضلالة)) مندرجة في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) لا يظن هذا بعمر، وقد شهد له النبي -عليه الصلاة والسلام- بالجنة، وأمرنا بالاقتداء به ((اقتدوا بالذين من بعدي: أبو بكرٍ وعمر)) ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)) ومع هذا يقال ما يقال؟ لا شك أن هذه إساءة إلى عمر، ومن زكّى عمر.
وقد وجد من يسيء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- من بعض الشراح الذين يتصدون لشرح سنته من حيث لا يشعرون، قد تصدر الكلمة من غير رويّة، ففي حديث: ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة)) قال بعض الشراح في هذا الحصر نظر، هذا الشارح يُنظر في كلام من؟ في كلام النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، لا شك أن هذه إساءة بالغة.
فليحذر المسلم أن يتكلم بكلامٍ غير موزون، بحيث لا يحسب له حساب؛ لأنه مؤاخذ بما ينطق به، أقول: بعضهم أساء إلى عمر، فقال: مثل هذه المقالة، شيخ الإسلام يرى أن البدعة في كلام عمر هي بدعة لغوية، وقلنا: أنها في الحقيقة ليست ببدعة لغوية فضلاً عن أن تكون شرعية، وليست بمجاز؛ لأنه لا مجاز في النصوص، أو لا مجاز مطلقاً، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشنقيطي، وجمع من أهل العلم، إذا قلنا: أنها ليست ببدعة لغوية، ولا بدعة شرعية، ولا مجاز، إذاً كيف نتصرف في هذا اللفظ الذي يوحي بأن هذه البدعة ممدوحة ومحمودة؟ نقول: إن إطلاق البدعة على هذه الصلاة التي سبقت شرعيتها من فعله -عليه الصلاة والسلام- من باب المشاكلة، والمجانسة في التعبير، نحن نبسط هذا الكلام لأن فيه من يلبس على الناس، من يلبس على الناس يقول يا أخي عمر -رضي الله تعالى- الخليفة الراشد الذي أمرنا بالاقتداء به والائتساء به في صحيح البخاري يقول عن صلاة التراويح بدعة، ونعمت البدعة، إذاً نحن نبتدع مثلما ابتدع عمر نبتدع بدع محمودة، وبذلك لا نذم ولا نلام، نقول: تذم وتلام، هل أنت مثل عمر؟ هل عمر أراد البدعة التي جاء ذمها من قبل النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ وقد زكّى النبي -عليه الصلاة والسلام- عمر وشهد له بالجنة؟ شتّان، أنت من يزكيك؟ هل ثبتت تزكيتك بالنص؟ أبداً، هذا ليس لغير من زكاه النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا التعبير من عمر -رضي الله تعالى عنه-، ليس ببدعةٍ لغوية، ولا مجاز، وإنما هو من باب المشاكلة، المشاكلة والمجانسة في التعبير، كأن قائلاً قال: ابتدعت يا عمر، لا سيما من لم يدرك الصلاة مع النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومنذ أن وجد وهو يصلي بمفرده صلاة التراويح، ثم عمر جمع الناس عليها بعد انقطاع الوحي، ولم يبلغه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع، يقول مثل هذا الكلام، ابتدعت يا عمر، ثم يقول عمر -رضي الله تعالى عنه- بعد ذلك: نعمت البدعة، فكأنه قيل له: ابتدعت يا عمر فقال: نعمت البدعة، هذه مجانسة ومشاكلة بالتعبير، ولها أمثلة: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}[(40) سورة الشورى] هذا في القرآن، السيئة الأولى جناية لا شك أنها سيئة، لكن معاقبة الجاني حسنة ليست بسيئة، وأطلق عليها سيئة من باب المشاكلة والمجانسة في التعبير، في لغة العرب جاء قولهم:
قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه
ج
قلت اطبخوا لي جبةً وقميصا
والجبة والقميص إنما يخاطان، ولا يطبخان، لكن لما قيل له: اقترح شيئاً نجد لك طبخه؛ لأنهم توقعوا أنه جائع، فتبيّن أنه لفحه البرد، فيحتاج إلى تدفئة، فبدلاً من أن يأكل قال: اطبخوا لي جبةً وقميصاً، وهل يتصور أنه يريد أن الجبة والقميص توضع في القدر ويوقد عليها النيران لتطبخ؟! أبداً، إنما مراده خيطوا لي جبةً وقميصاً، وأطلق على الخياطة طبخاً من باب المشاكلة والمجانسة في التعبير، نقول: هذا الكلام لئلا يتذرع بمثل هذا الكلام من يتلبس بالبدع ويبرر لتلبسه بها بمثل كلام عمر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.
الكلام على ثبوت الحوض:
في عقيدة السفاريني المسماة (الدرة المضيئة في عقد الفرقة المرضية) يقول -رحمه الله تعالى- في النظم:
كذا الصراط ثم حوض المصطفى
فيا هنا لمن به نال الشفا
في الشرح الذي اسمه (لوامع الأنوار) كما في طبعته الثانية، أما في طبعته الأولى في مطبعة المنار القديمة سموه (لوائح الأنوار) في لوامع الأنوار والشرح لنفس الناظم، قال:
ثم اجزم بعد البعث والنشور وأخذ الصحف والمرور بثبوت حوض النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنه حق ثابت بإجماع أهل الحق، قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}[(1) سورة الكوثر].
يقول السيوطي في كتابه (البدور السافرة): ورد ذكر الحوض من رواية بضعةٍ وخمسين صحابياً، منهم الخلفاء الأربعة الراشدون، وحفاظ الصحابة المكثرون -رضوان الله عليهم أجمعين- ثم ذكر الأحاديث عنهم واحداً واحداً، فالحوض ثابت بالأحاديث المتواترة، ومعلوم أن منكر القطع عند أهل العلم يكفر -نسأل الله السلامة والعافية- لأن القطع مفيد للعلم، العلم الضروري الذي يجد الإنسان نفسه مضطراً إلى تصديقه.
ثم يقول السفاريني في عقيدته:
عنه يذاد المفتري كما ورد
ومن نحا سبل السلامة لم يرد
عنه: أي عن حوض النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن الشرب منه يذاد، أي يطرد ويدفع المفتري، يذاد المفتري من الفرية وهي الكذب، فيقال: افترى افتراءً إذا كذب {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ}[(12) سورة الممتحنة] وفي الحديث: ((إن من أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا)) يعني يكذب في الرؤيا.
يقول السفاريني في شرحه: "الحاصل أن من الذين يذادون عن الحوض جنس المفترين على الله تعالى، وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- من المحدثين في الدين من الروافض والخوارج وسائر أصحاب الأهواء والبدع المضلة، وكذلك المسرفون من الظلمة المفرطون في الظلم والجور وطمس الحق، كذلك المتهتكون في ارتكاب المناهي، والمعلنون في اقتراف المعاصي، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: أغفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إغفاءةً، ثم رفع رأسه متبسماً، فقال: ((إنه أنزل عليّ آنفاً سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} حتى ختمها، إلى آخر الحديث الذي أوردناه سابقاً، ثم قال: كما ورد ذلك في الأحاديث النبوية مما ذكرنا ومما لم نذكر، يقول: وقد أخرج البخاري ومسلم حديث ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- بلفظ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن إلي رجال منكم، إذا هويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)) المقصود أن السبب في الذود وعدم الشرب من هذا الحوض هو الإحداث في الدين، والإحداث في الدين، كما يكون في الاعتقاد يكون في الأعمال، فمن ابتدع في الدين واخترع شيئاً أدخله وأدرجه في دين الله -جل وعلا- مما ليس منه لا شك أنه داخل في من يحدث فيذاد عن الحوض على ما تقدم.
ثم يقول السفاريني في شرح منظومته: ثم الطرد قد يكون في حالٍ ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد، يقول: ثم الطرد قد يكون في حالٍ ويقربون بعد المغفرة، إن كان التبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد، قال: وقد يقال: أن أهل الكبائر يردون ويشربون وإذا دخلوا النار بعد ذلك لم يعذبوا بالعطش؛ لأن من شرب من هذا الحوض لم يظمأ بعده أبداً، لم يظمأ بعد هذه الشربة أبداً، كيف حال أهل الكبائر الذين لا يعدون من المبتدعة ولم يحدثوا؟ هؤلاء أهل الكبائر هم الذين يقول عنهم السفاريني، ثم الطرد قد يكون في حالٍ ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد، قال: وقد يقال: إن أهل الكبائر يَرِدُون ويشربون لماذا؟ لأنهم لم يحدثوا في الدين، ولم يبتدعون فيه، وقد يقال: إن أهل الكبائر يردون ويشربون، وإذا دخلوا النار بعد ذلك لم يعذبوا بالعطش؛ لأن من شرب لم يظمأ بعد ذلك أبداً، فأهل البدعٍ مطرودون عن حوض النبي -عليه الصلاة والسلام- ومردودون عن الشرب منه.
(ومن نحا) أي وأي شخصٍ من هذه الأمة من ذكرٍ أو أنثى نحا أو قصد سُبل، بضم السين المهملة ككتب، جمع سبيل، وهو الطريق، وما وضح منه وجمعه لأن الأصل أن الطريق واحد، الصراط المستقيم واحد، فلماذا جمع؟ وقال: سبل السلامة، ولم يقل: سبيل السلامة؟ هو نظير ما جاء في قول الله تعالى: {سُبُلَ السَّلاَمِ}[(16) سورة المائدة] فيجمع السبل، وإن كان السبيل والطريق والصراط واحد، قال: جمعه لأن الطريق الحق واحد باعتبار خصاله وشعبه المتوصل منها إليه {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ}[(16) سورة المائدة] الأصل أن السبيل واحد وهو الطريق، وهو الحق، وهو الصراط المستقيم، لكن هذا الطريق وهذا السبيل يوصل إليه -هذا الغاية- وسائل متعددة، فباعتبار الوسائل يجمع فيقال:{يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ} يعني هذه الوسائل الموصلة إلى الصراط، والسبيل الصراط المستقيم، السبيل الواحد وهو الحق.
السلامة: يقول من الكلمات الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، قال في القاموس: السلامة: البراءة من العيوب، يعني أن من نهج منهج الحق وسلك طريق السنة وسلم من البدعة وكبائر الذنوب فإنه يرد على حوض النبي -صلى الله عليه وسلم- ويشرب منه، ولم يُرَد عن الشرب منه، ولم يطرد عن الورود عليه كما يفهم من الأحاديث التي تقدمت وبالله التوفيق.
المقصود أن الابتداع أمره خطير، وشأنه عظيم، فهو مشاركة لله -جل وعلا- في تشريعه، فالذين يبتدعون ويتبعهم هؤلاء المبتدعة على ضلالهم هؤلاء شركاء {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}[(21) سورة الشورى] فاختراع شيء في الدين وأمر الناس بالعمل بهذا المخترع في الدين وهذا المُبتَدع لا شك أنه شرك في التشريع.
فليحرص المسلم ذكراً كان أو أنثى على الاقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، وأن لا يعمل عملاً يتقرب به إلى الله -جل وعلا- إلا أن يكون لديه فيه دليل يتمسّك به، وقد جاء عن بعض السلف: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل، وفي هذا مبالغة في الاتباع، وتنفير من الابتداع، كما يقول ابن مسعود: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم" يعني الإنسان لو يعمل طول عمره في تحقيق ما خلق من أجله، وهو العبودية لله -جل وعلا- مقتصراً في ذلك على ما جاء عنه في كتابه، وما صح من سنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- لما كفاه العمر؛ لأنه ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أحاديث كثيرة جداً، فعلى الإنسان أن يعمل بجميع ما بلغه عن النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن العمل هو الثمرة المرجوة من العلم، فعلم بلا عمل كشجر بلا ثمر.
وبالمقابل إذا جاء الأمر بالعمل يأتي أيضاً التنفير والتحذير عن عملٍ لا علم معه، فلا شك أن العلم قبل القول والعمل، فيكون الإنسان على بصيرةٍ من أمره، فلا يقدم على أمرٍ يتديّن به، ويتقرب به إلى الله -جل وعلا- إلا أن يسبق له شرعية من كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- ليتحقق له ما وعد من الشرب من هذا الحوض الذي لا يظمأ بعده أبداً، وليهنأ بشربةٍ من حوضه -عليه الصلاة والسلام- ومن يده الشريفة.
في بقية السورة يقول الله -جل وعلا- بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} هذا الكوثر نعمة، بالنسبة له -عليه الصلاة والسلام-، ولأمته ممن اقتدى به -عليه الصلاة والسلام-، ولم يحد عن سنته -صلى الله عليه وسلم-، نعمة للنبي -عليه الصلاة والسلام-، ولأمته من بعده {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أمر بالصلاة، والصلاة شكر، ولذا لما قيل له -عليه الصلاة والسلام-، وقد قام حتى تفطّرت قدماه، عوتب -عليه الصلاة والسلام- ليخفف عن نفسه؛ لأن الله -جل وعلا- قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لما نوقش عن هذا الأمر قال -عليه الصلاة والسلام-: ((أفلا أكون عبداً شكوراً؟!)) فدل على أن الصلاة شكر للمنعم على ما أعطاه وأسداه من هذه النعم الجليلة التي منها الحوض {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} هذا أمر، من أهل العلم من يقول: أن المراد بالصلاة هذه، صلاة العيد، بدليل قوله: {وَانْحَرْ} فصل لربك: صلاة العيد، وانحر: نسكك أو أضحيتك، فهذا أمر بالصلاة التي هي صلاة العيد، ونحر الهدي والأضاحي، وصلاة العيد لهذا الأمر أوجبها من أوجبها من أهل العلم كالحنفية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لأنه ثبت الأمر بها في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}.
وأيضاً النبي -عليه الصلاة والسلام- داوم على صلاة العيد، ولم يذكر عنه أنه تركها وداوم عليها خلفاؤه من بعده -رضوان الله عليهم-، وأمر النساء بالخروج إليها في حديث أم عطية: أمرنا أن نخرج العواتق والحيّض، وذوات الخدور إلى صلاة العيد، فمثل هذه النصوص ترقى وتقوى على وجوب صلاة العيد، وهذا ما يختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
وأما الأمر بقوله: {وَانْحَرْ} فالمراد به الأضحية والهدي، فمن الهدي ما يجب، ومنه ما يستحب، وأما الأضحية فقد اختلف فيها أهل العلم، والجمهور على أنها سنة، وليست بواجبة، ومن أهل العلم من أوجبها لهذا الأمر، وهذا الأمر بالصلاة والأضحية هو في عيد الأضحى، وأما قوله -جل وعلا-: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}[(15) سورة الأعلى] هذا في عيد الفطر، تزكى أي دفع زكاة الفطر، ثم صلى صلاة العيد، وتقديم الزكاة، قد أفلح من تزكى، ثم بعد ذلك صلى، دليل على أن زكاة الفطر تؤدى قبل صلاة العيد، وبهذا جاءت النصوص الصحيحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم بعد ذلك يصلي صلاة الفطر.
وهنا {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} الصلاة قبل النحر، وبهذا جاءت السنة.
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} الشانئ: هو المبغض، يعني من يبغضك يا محمد ويشنؤك هو الأبتر، هو الأقطع، هو الناقص، الممحوق البركة، فالشانئ: هو المبغض كما في قوله -جل وعلا-: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[(
سورة المائدة] فالشانئ: هو المبغض فالذي يبغض النبي -عليه الصلاة والسلام- لا شك أنه هو الأبتر، هو الناقص، هو المقطوع، هو الذاهب البركة، لا بركة فيه ولا خير.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إذا كان في أسئلة أو شيء، إذا كان عند الأخوات أسئلة فليتفضلن.
فضيلة الشيخ: هناك سائلة تقول: تقوم بنمص الحاجب إرضاءً لزوجها، هل يمكن أن تهنأ بشربة من حوض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذا كانت تفعل كل هذه الأمور، ولم تفعل هذا الأمر إلا إرضاءً لزوجها؟
أولاً: إرضاء الزوج فيما لا معصية فيه، وما يطلبه بالمعروف واجب، لكن إذا طلب أمراً محرماً فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، فلا يجوز لها أن تطيعه في النمص، وقد جاء منعه والتحذير منه، وقد ثبت اللعن -نسأل الله السلامة والعافية- ومثل هذا لا يجوز أن يطاع فيه الزوج، وهي معرضة نفسها لغضب الله وسخطه بهذه المعصية، فلا يجوز لها أن تطيعه، وعلى كل حال إذا ارتكبت مثل هذا فهي معصية من المعاصي وهي تحت المشيئة إن شاء الله عذبها وإن شاء عفا عنها.
وعلى كل حال على المسلم والمسلمة أن يجتنب وليحذر ما نهي عنه، وبهذا تتحقق المتابعة للنبي -عليه الصلاة والسلام- وبها يهنأ بالشربة من هذا الحوض المبارك.
فضيلة الشيخ: هناك سائلة تسأل تقول: هل كل من يقع في البدعة لا يرد الحوض؟ وإن كان مقلداً لغيره، أما أن هناك ضابطاً لذلك؟
أولاً: البدع متفاوتة، فمنها البدع المغلظة، ومنها البدع المخففة، منها البدع الكبرى المخرجة من الملة، ومنها البدع الصغرى التي لا تصل إلى حد التفسيق فضلاً عن أن تكون كفراً، على كل حال هذه البدع يجمعها أنها ضلالة، لكنها متفاوتة، كسائر المعاصي، إلا أن شأن ما يتعلق بالاعتقاد أشد مما يتعلق بالأعمال، كما مرّ بنا في كلام السفاريني وغيره، إذا كانت هذه البدعة مكفرة، مخرجة عن الملة فهذا لا إشكال في كونه لا يشرب من هذا الحوض المبارك، إذا كانت البدعة مفسقة، بمعنى أنها بدعة مخالفة ظاهرة لنصٍ صحيحٍ صريح متعلقة بالاعتقاد، فهذا يخشى عليه من أن لا يشرب من الحوض النبوي، وإن كانت غير مكفرة.
وأما البدع التي يرتكبها بعض الناس جهلاً، ولم يبلغهم عن حكمها شيء فهؤلاء قد يعذرون بالجهل، أما إذا عرفوا أن هذه البدع مخالفة لهدي النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأنها محرمة فيخشى عليهم أن يلحقوا بالقسم السابق، فليست البدع على حدٍ سواء، وليس المبتدعة من حيث بلوغ الحجة أو عدم بلوغها على حدٍ سواء.
فضيلة الشيخ: هناك سائلة تسأل تقول: قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} هل الذبح لله حين تجدد نعمة، أو دفع نقمة، شكراً لله مشروع؟ أم أن النحر هنا هو الذبح للنسك والعقيقة فقط لا غير؟
الذبح إذا كان المقصود به التقرب لوجه الله -جل وعلا- سواء كان في نسك، في هدي، في أضحية، في عقيقة، في وليمة عرس امتثالاً لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((أولم ولو بشاة)) هذا كله يثاب عليه، إكراماً لضيفه ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) إذا امتثل مثل هذا يثاب عليه، لا شك أن إكرام الضيف جاء الأمر به والحث عليه، إذا ذبح لله -جل وعلا- ونسك نسيكة يوزعها على الفقراء والمحتاجين لا شك أنه يثاب عليها، فالنحر أعم من أن يكون أضحية أو هدي أو عقيقة، وإن كان هذه ما ورد فيها النصوص صراحةً، لكن يلحق بها ما يتقرب به إلى الله -جل وعلا- خالصاً لوجهه، ممتثلاً فيه ما جاء عنه وعن نبيه -عليه الصلاة والسلام- فالذي يذبح لضيفه امتثالاً لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) لا شك أن هذا مثاب عليها داخل في الأمر بالنحر، أيضاً قوله -عليه الصلاة والسلام- لعبد الرحمن بن عوف: ((أولم ولو بشاة)) من أولم بشاة فذبح شاةً وقدمها لضيوفه في عرسه فإنه يثاب امتثالاً لهذا الأمر.
فضيلة الشيخ: هناك سائلة تقول: بالضبط يا شيخ، ما هي الأعمال الصالحة التي تجعلنا نرد على حوض النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
الأعمال الصالحة هي جميع ما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- وأمر به، سواء كان من فعله فيقتدى به، أو كان من قوله فيتمثل أمره، وأيضاً ينظر إلى ما نهى عنه وحذّر منه فيجتنب، وهنا تتحقق التقوى التي هي خير الزاد الموصل إلى دار القرار {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[(197) سورة البقرة] والتقوى امتثال المأمورات واجتناب المحظورات، هذه حقيقة التقوى، فمن امتثل ما أمر به واجتنب ما نهي عنه فهو المتقي، ومن أجل التقوى شرعت العبادات، الله -جل وعلا- يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[(183) سورة البقرة] فالثمرة العظمى من الصيام ليست تعذيب النفس بالجوع والعطش، وإنما تحصيل التقوى.
ويقول الله -جل وعلا- بالنسبة للحج: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}[(203) سورة البقرة] فهذه العبادات إنما تفعل ابتغاء مرضات الله -جل وعلا- وتقواه، والتقوى هي وصية الله تعالى للأولين والآخرين من سائل الأمم، فعلى الإنسان أن يتقي الله -جل وعلا- بفعل جميع ما أمر به والكف والانتهاء عن جميع ما نهي عنه، وبهذا يصل؛ لأن التقوى هي الزاد الموصل إلى دار القرار مروراً بهذا الحوض الذي من شرب منه لم يظمأ أبداً.
أما بالنسبة لمن يترك الواجبات، ويرتكب ما حرم الله عليه فإن هذا على خطر؛ لأنه لم يحقق الهدف الذي من أجله خلق {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[(56) سورة الذاريات] فالذي يعصي الله -جل وعلا- ولا يأتمر بما أمره به، هذا ما حقق الهدف، بل لا بد من تحقيق ما خلق من أجله، وهو تحقيق العبودية.
هناك سائلة تقول: هل من كان بينه وبين أحد خصومه خصومة، واعتذر أحدهم للآخر، لكنه لم يقبل العذر ذلك الشخص، ولم يسامح، هل ممكن يرد على حوض النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
لا شك أن هذه الخصومة إذا تضمنت مظلمة من أحدهما للآخر، أو من كل واحدٍ منهما لصاحبه بحيث تزيد مظلمة أحدهما على الآخر، أما إذا تساوت المظلمتان وتم اقتصاص كل واحدٍ منهما للآخر، فهذه تمحو هذه، لكن يبقى أنه إذا زادت المظلمة من قبل أحدهما على الآخر فإنه لا بد أن يقتص منه لصاحبه، ولا شك أن عدم السماح لمن أتى معتذراً نادماً لا شك أنه حرمان للطرفين، حرمان لهذا الشخص الذي لم يقبل العذر، وما يدري ما عنده الله -جل وعلا- من ثوابٍ له ومحوٍ عن سيئاته بسبب هذا التجاوز، فالله -جل وعلا- خير من تجاوز وعفا، فمن عفا عفي عنه، وأن تعفو أقرب للتقوى، فإذا عفا، عفا الله عنه، وإذا أصر إلا أن يخاصم صاحبه في يوم العرض على الله -جل وعلا- لا شك أنه محروم، حرم نفسه وحرم أخاه.
ولا شك أن هذه معصية من المعاصي قد يؤاخذ بها وإن كان من حقوق العباد، وهي أشد من الحقوق، حقوق الله -جل وعلا- لأنها مبنية على المشاحاة، وقد يرضي الله -جل وعلا- خصمه، فيقوم هذا الرضا بمقابل هذه الخصومة، وهذه المظلمة، ويتجاوز الله -جل وعلا- عن الظالم، وإن كانت حقوق العباد في الجملة مبنية على المشاحاة.
هل صحيح -يا شيخ- بأن السادة هم سقاة الناس على الحوض؟
جاء في الخبر ما يدل على أن الحوض في أركانه الأربعة الخلفاء الأربعة، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فمن أبغض أبا بكر لن يشرب من قبل أبي بكر، ولن يشرب من قبل عمر، ولن يشرب من قبل عثمان، ولن يشرب من قبل علي؛ لأن ما بينهم من التواد والاتفاق والتطابق في ما يعبر عنه بوجهات النظر يعني همهم واحد، ودينهم واحد، وقدوتهم واحد، ولا يمكن أن يأتي من يسب أبا بكر ويكون أثيراً عند عمر، البتة، ولا يمكن أن يكون أثيراً عند عثمان ولا علي، فهؤلاء الخلفاء الأربعة هم الذين ورد ما ورد من الخبر في أنهم على زوايا الحوض يذودون الناس الذين يحودون عن الجادة، فلا يمكنونهم من الشرب، وأما غيرهم فلم يرد فيه شيء.
التكملة في الجزء الثاني.