السـؤال:
يُرجى إفادتُنا بأعمال الحج في يومه الأوّل أي يوم التروية بشيءٍ من التفصيل. وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
• فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية(١- قال الشوكاني في «نيل الأوطار» (6/154): «وإنما سمي بذلك لأنهم كانوا يرَّوون من الماء ، لأن تلك الأماكن لم يكن فيها إذ ذاك آبار ولا عيون»)، فإن المُحِلَّ بمكةَ ومن أرادَ الحج من أهلها أن يحرم ضحى من الموضع الذي نزل فيه من غير أن يذهب إلى البيت الحرام أو إلى ميزابِه ليحرم عنده.
ويستحب له عند إحرامه بالحجّ أن يفعل ما تقدّم من أعمال الإحرام بالعمرة من التنظيف والاغتسال والتطيب ولُبس ثياب الإحرام(٢- لا يشترط للحاج تغيير ثياب الإحرام التي أحرم بها في عمرته كما لا يشترط أن تكون جديدة، والأولى أن تكون نظيفة) ثم يقول:
«لَبَّيْكَ حَجًّا، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ»، ويُستحبُّ له الإكثارُ من التلبية ولا يقطعها حتى يرميَ جمرة العقبة الكبرى يوم النحر.
ويدلُّ عليه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أَمَرَنَا النبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لَـمَّا أَحْلَلْنَا أَنْ نُحْرِمَ إِذَا تَوَجَّهْنَا إِلَى مِنًى، قَالَ: فَأَهْلَلْنَا مِنَ الأَبْطَحِ»(٣- أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (1/554)، رقم: (1214)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما)، ففيه دليلٌ على أنَّ الإهلال بالحجِّ من محلِّ السكن؛ لأنَّ النبي صَلَّى الله عليه وآله وسلّم كان نازلاً في بطحاء مكة(٤- قال ابن عبد البر في «التمهيد» (24/429): «الأبطح: هو قرب مكة، وفيه مقبرة مكة، وهو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجته قبل دخوله مكة وفي خروجه فيها منصرفا». وقال النووي في «شرح مسلم» (8/162): «الأبطح: هو بطحاء مكة وهو متصل بالمحصب...إنما أحرموا من الأبطح لأنهم كانوا نازلين به، وكل من كان دون الميقات المحدود فميقاته منزله» بتصرف).
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «لَمْ يَزَلِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ»(٥- أخرجه البخاري كتاب «الحج»، باب الركوب والارتداف في الحج: (1/373)، (1/582) رقم: (1281)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما).
• ويُسنُّ للحاجِّ التوجُّه إلى مِنًى قبل الزوال أو بعده من يوم التروية، فيبيت بمِنًى ليلةَ عرفة، ويصلِّي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، كُلّ صلاة في وقتها بلا جمع، ويُقصر الرباعية منها، ثُمَّ يمكث بها حتى تطلعَ الشمس في اليوم التاسع، قال ابن عبد البر -رحمه الله-: «أمَّا صلاته -أي ابن عمر رضي الله عنهما‑ يوم التروية بمنى: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، فكذلك فعل النبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي سنة معمولة بها عند الجميع مستحبة، ولا شيء عندهم على تاركها إذا شهد عرفة في وقتها. أمَّا غُدُوُّه منها إلى عرفة حين تطلع الشمس فحسن، وليس في ذلك عند أهل العلم حَدٌّ، وحسب الحاج البائت بمنى ليلة عرفة ألا تزول له الشمس يوم عرفة إلاَّ بعرفة»(٦- «الاستذكار» لابن عبد البر: (4/328))، ولا فرق في قصر الصلاة بين أهل مكة وغيرهم من أهل الحِل والآفاق لثبوت صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالناس من أهل مكة وغيرهم بمنى وعرفة ومزدلفة قصرًا، ولو كان الإتمام واجبًا لأمرهم به كما أمرهم به عام الفتح(٧- وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر أهل مكة عام الفتح أن يصلوا أربعًا، فقد أخرج أبو داود وغيره من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْتُ مَعَهُ الفَتْحَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لاَ يُصَلِّي إِلاَّ رَكْعَتَيْنِ، وَيَقُولُ: يَا أَهْلَ البَلَدِ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ»، وفي إسناده مقال [قال ابن الملقن في «البدر المنير» (6/222): «ومداره من هذه الطرق كلها على عليّ بن زيد بن جدعان..وهو صاحب غرائب»، وضعفه الألباني في «المشكاة»: (1/423)]) -على فرض اعتبار صحة الحديث-، و«تَأْخِيرُ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لاَ يَجُوزُ».
ويلزم القصر -أيضًا- في حقِّ أهل منى المقيمين بها على الراجح؛ لأنه لم ينقل أنَّ أحدًا منهم أتمَّ صلاته بعد صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنَّ الهِمَمَ والدواعيَ تتوفَّر لنقله(٨- أمَّا إتمام عثمان بن عفان رضي الله عنه فالعلماء في تأويل سبب إتمامه خلاف، ولا يخرج فعله رضي الله عنه عن كونه اجتهاد منه خالفه عليه الصحابة رضي الله عنهم وأنكره عليه بعضهم، والمعلوم أنَّ الصحابة رضي الله عنهم إذا اختلفوا على قولين لزم التخيُّر من أقوالهم ما يوافقه الدليل وتدعمه الحُجَّة، وقد جاءت النصوص النبوية صريحة في القصر ولم ينقل خلافه، وما تعيَّن بالنصِّ وجب المصير إليه)، ويدلُّ عليه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ»(٩- جزء من حديث جابر رضي الله عنه الطويل: أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (1/556)، رقم: (1218)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما)(١٠- هكذا السُّنَّة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: المبيت بمنًى ليلةَ عرفة، ثمَّ التوجه منها إلى عرفة بعد طلوع الشمس، لا كما يفعله كثير من المطوفين ومن تبعهم من المرشدين مع الحجاج حيث ينقلونهم من مكة إلى عرفة يوم التاسع مباشرة من غير مبيت بمنى مع أنَّ مذهب مالك كراهة الإقامة بمكة يوم التروية حتى يمسي. [فتح الباري لابن حجر: 3/509)] فعلى الحاج المستبصر والحريص على دينه أن يسأل أهل العلم ليقع حَجُّه وفق السنة المطهرة.).
وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ إِذَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِمِنًى مِنْ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى»(١١- أخرجه أحمد: (2/129)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/566): «رواه أحمد ورجاله ثقات»، وصححه أحمد شاكر في تحقيقه ﻟ «مسند أحمد»: (9/5)، وحسّنه الوادعي في «الصحيح المسند»: (770)).
وعن عبيد الله بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلافَتِهِ»(١٢- أخرجه البخاري كتاب «الصلاة»، باب الصَّلاة بمنى: (1/261)، ومسلم كتاب «صلاة المسافرين وقصرها»: (1/313)، رقم (694)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما).
• هذا، ولا تجب صلاة الجمعة على الحاج، وإن وافقت يومًا من أيام الحجّ كمِنًى وعرفة ومزدلفة؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صَلَّى الجمعة في حَجَّته مع أنه وافق يوم عرفة، وإنما صلاها ظهرًا وجمع معه العصر، كما لم ينقل أنه صلاها صلى الله عليه وآله وسلم في أسفاره، وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَعَلَيْهِ الجُمْعَةُ يَوْمَ الجُمَعَةِ، إِلاَّ مَرِيضٌ أَوْ مُسَافِرٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ مَمْلُوكٌ»(١٣- أخرجه الدارقطني في «سننه»: (2/3)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (3/184)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. والحديث وإن كان في سنده علتان إلاَّ أنه يتقوى بما بعده. انظر شواهده في «السنن الكبرى» للبيهقي: (3/183)، و«الإرواء» للألباني: (3/55-58))، وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لَيْسَ عَلَى مُسَافِرٍ جُمُعَةٌ»(١٤- أخرجه الدارقطني في «سننه»: (164)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع»: (5405). وانظر: «الإرواء»: (3/61)).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
١- قال الشوكاني في «نيل الأوطار» (6/154): «وإنما سمي بذلك لأنهم كانوا يرَّوون من الماء ، لأن تلك الأماكن لم يكن فيها إذ ذاك آبار ولا عيون».
٢- لا يشترط للحاج تغيير ثياب الإحرام التي أحرم بها في عمرته كما لا يشترط أن تكون جديدة، والأولى أن تكون نظيفة.
٣- أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (1/554)، رقم: (1214)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
٤- قال ابن عبد البر في «التمهيد» (24/429): «الأبطح: هو قرب مكة، وفيه مقبرة مكة، وهو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجته قبل دخوله مكة وفي خروجه فيها منصرفا». وقال النووي في «شرح مسلم» (8/162): «الأبطح: هو بطحاء مكة وهو متصل بالمحصب...إنما أحرموا من الأبطح لأنهم كانوا نازلين به، وكل من كان دون الميقات المحدود فميقاته منزله» بتصرف.
٥- أخرجه البخاري كتاب «الحج»، باب الركوب والارتداف في الحج: (1/373)، (1/582) رقم: (1281)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
٦- «الاستذكار» لابن عبد البر: (4/328).
٧- وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر أهل مكة عام الفتح أن يصلوا أربعًا، فقد أخرج أبو داود وغيره من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْتُ مَعَهُ الفَتْحَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لاَ يُصَلِّي إِلاَّ رَكْعَتَيْنِ، وَيَقُولُ: يَا أَهْلَ البَلَدِ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ»، وفي إسناده مقال [قال ابن الملقن في «البدر المنير» (6/222): «ومداره من هذه الطرق كلها على عليّ بن زيد بن جدعان..وهو صاحب غرائب»، وضعفه الألباني في «المشكاة»: (1/423)].
٨- أمَّا إتمام عثمان بن عفان رضي الله عنه فالعلماء في تأويل سبب إتمامه خلاف، ولا يخرج فعله رضي الله عنه عن كونه اجتهاد منه خالفه عليه الصحابة رضي الله عنهم وأنكره عليه بعضهم، والمعلوم أنَّ الصحابة رضي الله عنهم إذا اختلفوا على قولين لزم التخيُّر من أقوالهم ما يوافقه الدليل وتدعمه الحُجَّة، وقد جاءت النصوص النبوية صريحة في القصر ولم ينقل خلافه، وما تعيَّن بالنصِّ وجب المصير إليه.
٩- جزء من حديث جابر رضي الله عنه الطويل: أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (1/556)، رقم: (1218)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
١٠- هكذا السُّنَّة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: المبيت بمنًى ليلةَ عرفة، ثمَّ التوجه منها إلى عرفة بعد طلوع الشمس، لا كما يفعله كثير من المطوفين ومن تبعهم من المرشدين مع الحجاج حيث ينقلونهم من مكة إلى عرفة يوم التاسع مباشرة من غير مبيت بمنى مع أنَّ مذهب مالك كراهة الإقامة بمكة يوم التروية حتى يمسي. [فتح الباري لابن حجر: 3/509)] فعلى الحاج المستبصر والحريص على دينه أن يسأل أهل العلم ليقع حَجُّه وفق السنة المطهرة.
١١- أخرجه أحمد: (2/129)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/566): «رواه أحمد ورجاله ثقات»، وصححه أحمد شاكر في تحقيقه ﻟ «مسند أحمد»: (9/5)، وحسّنه الوادعي في «الصحيح المسند»: (770).
١٢- أخرجه البخاري كتاب «الصلاة»، باب الصَّلاة بمنى: (1/261)، ومسلم كتاب «صلاة المسافرين وقصرها»: (1/313)، رقم (694)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
١٣- أخرجه الدارقطني في «سننه»: (2/3)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (3/184)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. والحديث وإن كان في سنده علتان إلاَّ أنه يتقوى بما بعده. انظر شواهده في «السنن الكبرى» للبيهقي: (3/183)، و«الإرواء» للألباني: (3/55-58).
١٤- أخرجه الدارقطني في «سننه»: (164)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع»: (5405). وانظر: «الإرواء»: (3/61).
السـؤال:
ما هي الأعمال التي يقوم بها الحاج يوم عرفة، الموافقة للسنة المطهرة المتبعَة؟
الجـواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
• فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع من ذي الحجة -وهو يوم عرفة- توجَّه الحاجُّ من منًى إلى عرفةَ مُلَبِّيـًّا أو مكبِّرًا.
• ويُسنُّ له النُّزول ﺑ «نَمِرَة»(١- موضع قريب من عرفة وليس منها، كانت منزل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. انظر: «مراصد الاطلاع» للصفي البغدادي: (3/1390)، و«معجم ما استعجم» للبكري: (1/134)) يمكث فيها إلى قُبيل الزوال، إن تيسَّر ذلك، فإذا زالت الشمس انتقل إلى «عُرَنة»(٢- عُرنة: موضع بحذاء عرفة وليست منها إنما هي من الحرم، وعرفة خارجة عن الحرم وداخل في الحل. انظر: «مراصد الاطلاع» للصفي البغدادي: (2/934)، و«معجم ما استعجم» للبكري: (4/1190)) ونزل فيها وليست «عُرنة» من أرض عرفة عند عامَّة العلماء(٣- قال النووي في «شرح مسلم» (8/181): «وليست عرنة من أرض عرفات عند الشافعي والعلماء كافة إلا مالكا فقال: هي من عرفات». قال البغوي في «شرح السنة» (7/153): «واختلفوا فيمن وقف ببطن عرنة، فقال الشافعي: لا يجزئه حجه، وقال مالك: حجه صحيح وعليه دم»)، وفيها يُسنُّ للإمام أن يخطب الناسَ خُطبةً قصيرةً تناسب الحالَ وتليق بالمقام، ثمَّ يصلي بالناس الظهر والعصر قصرًا وجمعَ تقديم، أي في وقت الظهر بأذان واحدٍ وإقامتين يعجِّل فيهما ولا يصلي بينهما شيئًا، قال ابن قدامة ‑رحمه الله‑: «والسُّنَّة تعجيل الصلاة حين تزول الشمس، وأن يقصر الخطبة، ثمَّ يروح إلى الموقف، لما روى سالم أنه قال للحجّاج يوم عرفة: «إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُنَّةَ فَقَصِّر الخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الصَلاَةَ»، فقال ابن عمر: «صَدَقَ»، رواه البخاري(٤- أخرجه البخاري كتاب «الحج»، باب قصر الخطبة بعرفة: (1/401)، من حديث سالم بن عبد الله رضي الله عنه)، ولأنَّ تطويل ذلك يمنع الرواح إلى الموقف في أول وقت الزوال، والسُّنَّة التعجيل في ذلك»(٥- «المغني» لابن قدامة: (3/408)).
هذا، ومن فاتته صلاة الظهر والعصر مع الإمام فليصلهما قصرًا وجمع تقديم مع من معه من المسلمين، وكذلك على مَن تعذَّر عليه العمل بسُّنة النُّزول بوادي نمرة أو ببطن عُرنة فتجاوزهما إلى عرفة فلا حرج عليه عند عامَّة الفقهاء، قال ابن تيمية ‑رحمه الله‑: «وأمَّا ما تضمَّنته سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المقَام بمنًى يوم التروية، والمبيت بها الليلة التي قبل يوم عرفة ثمَّ المقام بعرنة -التي بين المشعر الحرام وعرفة- إلى الزوال، والذهاب منها إلى عرفة والخطبة والصلاتين في أثناء الطريق ببطن عُرنة، فهذا كالمجمع عليه بين الفقهاء، وإن كان كثير من المصنِّفين لا يميِّزه، وأكثر الناس لا يعرفه لغلبة العادات المحدثة»(٦- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (26/168))، قال ابن عبد البر ‑رحمه الله‑: «هذا كله لا خلاف بين العلماء المسلمين فيه»(٧- «الاستذكار» لابن عبد البر: (4/324)).
ويدلُّ على ما تقدَّم حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الطويل بعد صلاة الصبح يوم التاسع بمنى قال: «...ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَلاَ تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ»(٨- جزء من حديث جابر رضي الله عنه الطويل: أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (1/556)، رقم: (1218))، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «غَدَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مِنًى حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ صَبِيحَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَنَزَلَ بِنَمِرَةَ وَهِيَ مَنْزِلُ الإِمَامِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ بِعَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ صَلاَةِ الظُّهْرِ رَاحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مُهَجِّرًا فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ ثُمَّ رَاحَ فَوَقَفَ عَلَى الْمَوْقِفِ مِنْ عَرَفَةَ»(٩- أخرجه أبو داود كتاب «المناسك»، باب الخروج إلى عرفة: (2/320)، وأحمد: (2/192)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه. والحديث صححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد»: (9/5)، وحسّنه الألباني في «صحيح أبي داود»: (1913)، والوادعي في «الصحيح المسند»: (748)).
ويدلُّ على استحباب التلبية والتكبير في الطريق من منًى إلى عرفات حديث عمر رضي الله عنه قال: «غَدَوْنَا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ مِنَّا الملَبِّي، وَمِنَّا المكَبِّرُ»(١٠- أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (1/583)، رقم: (1284)، وأبو داود كتاب «المناسك»، باب متى يقطع التلبية: (2/279)، وأحمد: (2/22)، من حديث عمر رضي الله عنه)، وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: «كَانَ يُهِلُّ مِنَّا المهِلُّ فَلاَ يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ مِنَّا المكَبِّرُ فَلاَ يُنْكَرُ عَلَيْهِ»(١١- أخرجه البخاري كتاب «الحج»، باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة: (1/400)، ومسلم كتاب «الحج»: (1/583)، رقم: (1285)، من حديث أنس رضي الله عنه)، والحديث وإن دلَّ على التخيير بين التكبير والتلبية من تقريره صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك إلاَّ أنَّ أفضل الأمرين ما دلَّ عليه فعله صلى الله عليه وآله وسلم من لزومه التلبية على ما ثبت من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الطويل، وفيه -أيضًا- بعد ذكر خطبته صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا»(١٢- جزء من حديث جابر رضي الله عنه الطويل: أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (1/556)، رقم: (1218)).
• فإذا فرغ من الصلاتين عجَّل الذهاب إلى الموقف بعرفة، وأصل الوقوف ركنٌ لا يصحُّ الحجُّ إلاَّ به إجماعًا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الحَجُّ عَرَفَةُ»(١٣- أخرجه أبو داود كتاب «المناسك»، باب من لم يدرك عرفة: (2/332)، والترمذي كتاب «الحج» باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج: (889)، والنسائي كتاب «مناسك الحج»، باب فرض الوقوف بعرفة: (3016)، وابن ماجه كتاب «المناسك»، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع: (3015)، وأحمد (18297)، من حديث عبد الرحمن بن يعمر الدِّيليِّ رضي الله عنه. والحديث صححه ابن الملقن في «البدر المنير»: (6/230)، والألباني في «الإرواء»: (4/256))، فيقف عند الصخرات المفترشات أسفل جبل الرحمة(١٤- جبل الرحمة: هو الجبل الذي بوسط أرض عرفات، وحد عرفة من الجبل المشرف على عرنة إلى الجبال المقابلة له [انظر: «المغني» لابن قدامة:(3/410) و«شرح مسلم» للنووي: (8/185)]. قال ابن تيمية -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» (26/133): «وأمّا صعود الجبل الذي هناك فليس من السنة ويسمى جبل الرحمة»، وقال في «الفتاوى الكبرى» (5/382): «ولا يشرع صعود جبل الرحمة إجماعًا». )، وهذا هو الموقف المستحب، فإن عجز فليقرب منه بحسب الإمكان(١٥- قال النووي-رحمه الله- في «شرح مسلم» (8/185): «وأمّا ما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل، وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط، بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات، وأن الفضيلة في موقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الصخرات»)، وإلاَّ فعرفة كلُّها موقف، إلاَّ بطن عرنة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ»(١٦- أخرجه ابن ماجه كتاب «المناسك»، باب الموقف بعرفات: (3012)، من حديث جابر رضي الله عنه. انظر رواته وطرقه في «البدر المنير» لابن الملقن: (6/234)، والحديث صححه ابن عبد البر في «الاستذكار»: (4/274)، والألباني في «صحيح الجامع»: (4006))، وليس معنى الوقوف في هذا المكان هو القيام على القدمين، وإنما هو المكوث بأيّ هيئة كانت من بعد زوال الشمس إلى ما بعد غروبها من ذلك اليوم.
• ويسنُّ للحاج استقبال الكعبة في الوقوف(١٧- تنبيه: لا يستقبل الحاج في دعائه وأذكاره جبل الرحمة إلا إذا كان الجبل بينه وبين القبلة، قال ابن قدامة -رحمه الله- في «المغني» (3/410): «والمستحب أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة، ويستقبل القبلة لما جاء في حديث جابر رضي الله عنه»)، أن يجتهد في ذكر الله تعالى بالأذكار المأثورة والتلبية والأدعية الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، وهي في كلِّ وقت لا سيما في عشية هذا الموقف العظيم، يرفع يديه -حال الدعاء- بالتضرّع إليه والتذلُّل بين يديه وحضور قلب مخلصًا عبادته لله رب العالمين، ويُستحب له الإكثار من التهليل والتكرار منه، فإنه خير الذكر يوم عرفة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ عَشِيَةَ عَرَفَةَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(١٨- أخرجه الطبراني في «فضل عشر ذي الحجة»: (13/2)، من حديث علي رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (4/7))، كما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «أَحَبُّ الكَلاَمِ إِلى اللهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالحمْدُ للهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ»(١٩- أخرجه مسلم كتاب «الآداب»: (2/1025)، رقم: (2137)، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه).
وإن لبَّى أو قرأ ما تيسَّر من القرآن فحسن، كلُّ ذلك لاغتنام فضيلة يوم عرفة لا سيما في آخر النهار يرجو فيها الحاج من الله تعالى أن يكون من عتقائه الذين يباهي بهم الملائكة، فإن خير الدعاء دعاء يوم عرفة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ المَلاَئِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ؟»(٢٠- أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (1/613)، رقم: (1348)، من حديث عائشة رضي الله عنها)، وفي حديث آخر: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُبَاهِي المَلاَئِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ، يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا»(٢١- أخرجه أحمد: (2/305)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/560): «رجاله رجال الصحيح»، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد»: (15/193)، وحسّنه الوادعي في «الصحيح المسند»: (1361)).
• ويستحب له أن يشهد المناسكَ كلَّها على وضوء لا سيما في هذا الموقف، ومن وقف لعرفة غير طاهر فهو مدرك للحج إجماعًا، قال ابن قدامة -رحمه الله-:«ولا يشترط للوقوف طهارة ولا ستارة ولا استقبال ولا نية ولا نعلم في ذلك خلافًا»(٢٢- «المغني» لابن قدامة: (3/416)).
• ويبقى الحاجّ على هذه الحال مُخْبِِِتًا لربه ذاكرًا وملبيًا وداعيًا بانكسارٍ بين يديه، راجيًا رحمته ومغفرته، وخائفًا عذابه ومقته وغضبه، محاسبًا نفسه، مجدِّدًا توبةً نصوحًا ويستمرُّ في ذلك حتى تغرب الشمس.
ويدلُّ على ما تقدَّم حديث جابر بن عبد الله ‑رضي الله عنهما‑ قال: «ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ»(٢٣- جزء من حديث جابر رضي الله عنه الطويل: أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (1/556)، رقم: (1218)).
• والسنة للحاجِّ الواقف في عرفة الفطر يوم عرفة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّمَ أَفْطَرَ بِعَرَفَةَ وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الْفَضْلِ بِلَبَنٍ فَشَرِبَ»(٢٤- أخرجه الترمذي كتاب «الصوم»، باب كراهية صوم يوم عرفة بعرفة: (750)، وأحمد: (1/ 278)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني في «صحيح الترمذي»: (750))، وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن صوم عرفة بعرفة؟ فقال:«حَجَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَمَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَمَعَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَأَنَا لاَ أَصُومُهُ وَلاَ آمُرُ بِهِ وَلاَ أَنْهَى عَنْهُ»(٢٥- أخرجه الترمذي كتاب «الصوم»، باب كراهية صوم يوم عرفة بعرفة: (751)، وأحمد: (2/73)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه. وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد»: (7/217)، والألباني في «صحيح الترمذي»: (751))، قال ابن قدامة-رحمه الله- «أكثر أهل العلم يستحبون الفطر يوم عرفة بعرفة، وكانت عائشة وابن الزبير يصومانه، وقال قتادة: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء، وقال عطاء: أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف؛ لأن كراهة صومه إنما هي معللة بالضعف عن الدعاء، فإذا قوي عليه أو كان في الشتاء لم يضعف فتزول الكراهة... ولأن الصوم يضعفه ويمنعه الدعاء في هذا اليوم المعظّم الذي يستحب فيه الدعاء في هذا الموقف الشريف الذي يُقصد من كل فج عميق، رجاء فضل الله فيه وإجابة دعائه به، فكان تركه أفضل»(٢٦- «المغني» لابن قدامة: (3/176)).
• فإذا غربت الشمس أفاض الحاج من عرفات متوجِّهًا إلى مزدلفة، ودفع منها بسير سهل في سرعة وبسكينة ووقار، فلا يزاحم الحجاج نفسه، ولا يضايق عليهم بمركبه ومتاعه، ويسرع متى وجد فجوة أو خلوة أو متسعًا دون استعجال؛ لأنَّ السنة أن يصلي الحاج المغرب تلك الليلة مع العشاء بمزدلفة(٢٧- قلت: هذه السنة وهي الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة إنما هي للاحق أما المتخلف الذي يخشى عدم وصوله إليها إلا بعد منتصف الليل فيشرع له الصلاة قبل الوصول إلى مزدلفة لعدم جواز تأخير الصلاة إلى ما بعد نصف الليل، ولا تجب عليه إعادة الصلاة أو قضائها بمزدلفة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«من أدرك معنا هذه الصلاة [أي: صلاة الصبح] وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد تم حجه وقضى تفثه» [أخرجه أبو داود كتاب «المناسك»، باب من لم يدرك عرفة: (2/333)، وأحمد: (4/15)، من حديث عروة بن مضرِّس الطائي رضي الله عنه. والحديث صحَّحه ابن الملقن في «البدر المنير»: (6/240)، والألباني في «الإرواء»: (4/259)] قال ابن قدامة-رحمه الله- في «المغني» (3/415) في بيان آخر وقت الوقوف يوم عرفة: «لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في أن آخر الوقت طلوع فجر يوم النحر»، فدل ذلك على أن المتخلف يصلي المغرب والعشاء في غير مزدلفة)، ويدلُّ عليه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:«فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَت الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلاً حتَى غَابَ الْقُرْصُ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ ودَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى:«أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ» كُلَّمَا أَتَى حَبْلاً مِنْ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلاً حَتَّى تَصْعَدَ»(٢٨- جزء من حديث جابر رضي الله عنه الطويل: أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (1/556)، رقم: (1218)).
وعن ابن عباس أنَّ أسامة بن زيد رضي الله عنهم قال:«أَفَاضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَةَ وَأَنَا رَدِيفُهُ فَجَعَلَ يَكْبَحُ رَاحِلَتَهُ حَتَّى أَنَّ ذِفْرَاهَا لَيَكَادُ يُصِيبُ قَادِمَةَ الرَّحْلِ وَهُوَ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ فِي إِيضَاعِ الإِبِلِ»(٢٩- أخرجه النسائي كتاب «مناسك الحج»، فرض الوقوف بعرفة: (3018)، وأحمد: (5/201)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع»: (7885))، وعنه رضي الله عنهما قال: «كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ(٣٠- الْعَنَقُ: هو السير الذي بين الإبطاء والإسراع، وهو سير سهل في سرعة [«فتح الباري» لابن حجر: (3/518)]) فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً(٣١- الفَجْوَةُ: الموضع المتسع بين الشيئين [«النهاية» لابن الأثير: (3/414)]) نَصَّ(٣٢- النصُّ: التحريك حتى يخرج أقصى سير الناقة، وأصل النصِّ: أقصى الشيء وغايته، ثم سمِّي به ضرب من السير سريع. [«النهاية» لابن الأثير: (5/64)])»(٣٣- أخرجه البخاري كتاب «الحج»، باب السير إذا دفع من عرفة: (1/402)، ومسلم كتاب «الحج»: (1/585)، رقم: (1286)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما)، قال ابن عبد البر ‑رحمه الله‑ في تعليقه على هذا الحديث: «وليس في هذا الحديث أكثرُ من معرفة كيفية السير في الدفع من عرفة إلى المزدلفة، وهو شيءٌ يجب الوقوفُ عليه وامتثالُه على أَئِمَّة الحاجِّ فمن دونهم؛ لأن في استعجالِ السير إلى المزدلفة استعجالَ الصلاةِ بها، ومعلوم أنَّ المغربَ لا تصلَّى تلك الليلة إلاَّ مع العشاء بالمزدلفة، وتلك سنَّتُها، فيجب أن تكون على حسب ما فعله رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن قصرَ عن ذلك أو زاد فقد أساء إذا كان عالما بما في ذلك»(٣٤- «الاستذكار»لابن عبد البر: (4/296))، ويؤيّده حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال:«فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الشِّعْبَ الأَيْسَرَ الَّذِي دُونَ الْمُزْدَلِفَةِ أَنَاخَ فَبَالَ، ثُمَّ جَاءَ فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الْوَضُوءَ، فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا فَقُلْتُ: الصَّلاةَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: الصَّلاةُ أَمَامَكَ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى ثُمَّ رَدِفَ الْفَضْلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ جَمْعٍ»(٣٥- أخرجه البخاري كتاب «الحج»، باب النزول بين عرفة وجمع: (402)، ومسلم كتاب «الحج»: (1/582)، رقم: (1280)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
السؤال:
من الأعمال التي يقوم بها الحاجُّ في يوم عيد النحر: رميُ جمرة العقبة، فنرجو من شيخنا -حفظه الله- أن يبيِّن أحكامَه، ووقتَه، ومستحباتِه، وجزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فيستحبُ للحاجّ التقاطُ حصى الجمارِ من الطريق يوم النحر، والأفضلُ التقاطه من منى، وإن أخذَه من مزدلفةَ أجزأه، قال ابنُ قدامة -رحمه الله-: «ولا خلاف في أنه يجزئه أخذُه من حيث كان»(١- «المغني» لابن قدامة : (3/425))، ويدلّ على الأفضلية حديثُ الفضل بن العباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: « عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ»، وَهُوَ كَافٌّ نَاقَتَهُ حَتَّى دَخَلَ مُحَسِّرًا، ‑وَهُوَ مِنْ مِنًى‑، عَلَيْكُمْ بِحَصَى الخَذْفِ الذِي يُرْمَى بِهِ الجمْرَةُ»(٢- أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (1/582)، رقم: (1282)، والنسائي كتاب «مناسك الحج»، باب الأمر بالسكينة في الإفاضة من عرفة: (5/258)، وأحمد: (1/210)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما). ويستحب أن يكون حجمُ حصى الرمي مثلَ حصى الخذف قدر حبة الباقلاء(٣- قال النووي في «شرح مسلم» (9/27،47): «ولو رمى بأكبر أو أصغر جاز مع الكراهة»، قلت: «وإنما الكراهة تقررت في الزيادة أو النقصان لدخولها في باب الغلو في الدين الذي يكون سببا في هلاك صاحبه، وكذا الاغتسال لرمي الجمار وغسل الحصى ورمي الجمرات بالنعال، كل ذلك معدود من محدثات الأمور التي لم يرد فيها نص شرعي يسندها أو أثر صحيح عن سلف الأمة يدعمها». قال ابن المنذر: «لا يعلم في شيء من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم غسلها أو أمر بغسلها» قال: ولا معنى لغسلها [«المجموع» للنووي: 8/153]) ما بين حبة الحِمَّص وحبة البندق، والتقاطُها أولى من تكسيرها لهذا الخبر(٤- «المغني» لابن قدامة: (3/425))، ولحديثِ ابن عباس رضي الله عنهما: «قَالَ لي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ العَقَبَةِ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: «هَاتِ الْقُطْ لِي» فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الخَذْفِ فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: «بِأَمْثَالِ هَؤُلاءِ وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الغُلُوُّ فِي الدِّينِ»(٥- أخرجه النسائي كتاب «مناسك الحج»، باب التقاط الحصى: (3057)، وابن ماجه كتاب «المناسك»، باب قدر حصى الرمي: (3029)، وأحمد: (1/347)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه النووي في «المجموع»: (8/171)، وأحمد شاكر في تحقيقه ﻟ «مسند أحمد»: (5/85)، والألباني في «السلسلة الصحيحة»: (3/278))
فإذا وصلَ إلى جمرةِ العقبة الكبرى(٦- قال ابن حجر -رحمه الله- في «فتح الباري» (3/581): «جمرة العقبة: هي الجمرة الكبرى، وليست من منى بل هي حد منى من جهة مكة، وهي التي بايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار عندها على الهجرة، والجمرة اسم لمجتمع الحصى سميت بذلك لاجتماع الناس بها، يقال: تجمر بنو فلان إذا اجتمعوا، وقيل إن العرب تسمي الحصى الصغار جمارا فسميت تسمية الشيء بلازمه، وقيل لأن آدم أو إبراهيم لما غرض له إبليس فحصبه جمر بين يديه أي أسرع فسميت بذلك» وقال -رحمه الله- أيضا في المصدر السابق (3/580): «تمتاز جمرة العقبة عن الجمرتين الأخريين بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر، وأنه لا يوقف عندها، وترمى ضحى، ومن أسفل استحبابا») استقبلها وجعل مكةَ عن يساره ومنى عن يمينه، فيرميها بسبع حصياتٍ متعاقباتٍ، يرفع يده عند رمي كلِّ حصاة، ويكبِّر مع كلِّ حصاة، ولا يجزيه أن يرمي الحصياتِ جملةً واحدةً(٧- انظر شروط الرمي في فتوى رقم: (606))، ثم يقطع التلبية مع آخر حصاةٍ يرميها لحديث الفضل رضي الله عنه قَال: «أَفَضْتُ مَعَ النبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في عَرَفَاتٍ فَلَمْ يَزَلْ يُلَبي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ قَطَعَ التَلْبِيَةَ مَعَ آخِرِ حَصَاةٍ»(٨- أخرجه ابن خزيمة: (4/282)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (5/137)، من حديث الفضل بن العباس رضي الله عنهما. قال ابن خزيمة: «هذا حديث صحيح مفسر لما أبهم في الروايات الأخرى وأن المراد بقوله حتى رمى جمرة العقبة أي أتم رميها» [انظر «فتح الباري» لابن حجر: (3/533)])، وفي حديثِ عبد الرحمن بنِ يزيد رضي الله عنه أنَّه «كَانَ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ فَاسْتَبْطَنَ الوَادِيَ حَتَّى إِذَا حَاذَى بِالشَّجَرَةِ اعْتَرَضَهَا فَرَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ هَا هُنَا وَالذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ قَامَ الذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ»(٩- أخرجه البخاري كتاب «الحج»، باب يكبر مع كل حصاة: (1/419)، ومسلم كتاب «الحج»: (1/588)، رقم: (1296)، من حديث عبد الرحمن بن يزيد)، وفي رواية للبخاري-أيضا-: «فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ»(١٠- أخرجه البخاري كتاب «الحج»، باب من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره: (1/419)، ومسلم كتاب «الحج»: (1/588)، رقم: (1296)، من حديث عبد الرحمن بن يزيد)
وإِنْ رماها من الجوانب الأخرى أجزأَه فعلُه إذا وقع الحصى في المرمى، قال الحافظ -رحمه الله -: «وقد أجمعوا على أنَّه من حيث رماها جاز سواء استقبلها أو جعلها عن يمينه أو يساره أو من فوقها أو من أسفلها أو وسطها، والاختلافُ في الأفضل»(١١- «فتح الباري»: لابن حجر: (3/582) انظر: «الاستذكار» لابن عبد البر: (4/351)، «شرح مسلم»: للنووي (9/42))، قال ابنُ المنذر -رحمه الله-: «وأجمعوا على أنه إذا رمى على أيِّ حالةٍ كان الرمي إذا أصاب مكان الرمي أجزأه»(١٢- «الإجماع» لابن المنذر: (52)).
وأفضلُ وقتٍ لرميِ جمرة العقبة الكبرى هو من طلوع الشمس إلى الزوال اتفاقًا، قال ابن قدامة -رحمه الله-: «أمّا وقتُ الفضيلة فبعد طلوعِ الشمس، قال ابنُ عبد البر -رحمه الله-: «أجمع علماء المسلمين على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما رماها ضحًى ذلك اليوم(١٣- قال ابن عبد البر في «الاستذكار»(4/293) : «وأجمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رمى يوم النحر في حجته جمرة العقبة بمنى يوم النحر بعد طلوع الشمس. وأجمعوا على أن من رماها ذلك اليوم بعد طلوع الشمس إلى زوالها فقد رماها في وقتها»)، وقال جابر: «رَأَيْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي الجمْرَةَ ضُحًى يَوْمَ النَحْرِ وَحْدَهُ، وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ زَوَالِ الشَمْسِ»، أخرجه مسلم(١٤- كتاب «الحج»: (1/590)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «رَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى وَأَمَّا بَعْدُ فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ»). وقال ابن عباس: قَدَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ أُغَيْلِمَةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى حُمُرَاتٍ فَجَعَلَ يَلْطَح أَفْخَاذَنَا وَيَقُولُ: أُبَيْنِيَّ لا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ»(١٥- أخرجه أبو داود كتاب «المناسك»، باب التعجيل من جمع: (2/329)، والنسائي كتاب «الحج»، باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس: (3064)، وابن ماجه كتاب «الحج»، باب من تقدم من جمع إلى منى: (3025)، وأحمد: (1/311)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني في «الإرواء»: (4/276)) رواه ابن ماجه. وكان رميُها بعد طلوعِ الشمس يجزي بالإجماعِ وكان أولى»(١٦- «المغني» لابن قدامة: (3/429))
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ -رحمه الله- : «قال ابنُ المنذر: «السنة أن لا يرمي إلاَّ بعد طلوع الشمس كما فعل النبي صلى الله عليه وسلَّم، ولا يجوزُ الرمي قبل طلوع الفجر لأنَّ فاعله مخالفٌ للسنَّة، ومن رمى حينئذٍ فلا إعادةَ عليه، إذ لا أعلمُ أحدًا قال: لا يجزئه»(١٧- «فتح الباري» لابن حجر: (3/529))
وقال الشوكاني - رحمه الله -:«والأدلةُ تدلُّ على أنَّ وقت الرمي بعد طلوع الشمس لمن كان لا رخصة له، ومن كان له رخصة كالنساءِ وغيرِهنَّ من الضَعَفَة جازَ قبل ذلك، ولكنَّه لا يجزئ في أوَّل ليلةِ النحرِ إجماعًا»(١٨- «نيل الأوطار» للشوكاني: (6/168) انظر فتوى برقم (197)).
وإِنْ أخّر إلى ما بعد الزوالِ إلى آخر النهارِ جاز إجماعًا. قال ابنُ عبد البر-رحمه الله-: «وأجمعوا أنَّه إن رماها قبل غروب الشمس من يوم النحر فقد أجزأَ عنه»(١٩- «الاستذكار» لابن عبد البر: (4/295)) لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ يُسْأَلُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى فَيَقُولُ: «لاَ حَرَجَ» فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: «حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ»، فَقَالَ:« اذْبَحْ وَلا حَرَجَ» وَقَالَ: «رَمَيْتُ بَعْدَ أَنْ أَمْسَيْتُ» فَقَالَ:« لا حَرَجَ»(٢٠- أخرجه البخاري كتاب «الحج»، باب إذا رمى بعدما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسيا أو جاهلا: (1/416)، من حديث اين عباس رضي الله عنهما).
وإن تعذَّر عليه الرميُ إلاَّ ليلاً بعد غروب الشمس من يوم النحر جاز على الصحيح(٢١- فآخر وقت رمي جمرة العقبة هو غروب الشمس من اليوم الثالث من أيام التشريق، فعند أبي حنيفة ومالك: أن من أخرها إلى أيام التشريق عليه دم، وعند الشافعي وأحمد: لا شيء عليه إلا أنه عند أحمد إذا أخر الرمي إلى أيام التشريق لا يرمي إلا بعد الزوال. [انظر المنتقى للباجي: (3/52-53)، «بدائع الصنائع» للكاساني: (2/207-208)، «الشرح الكبير» لابن قدامة (3/480)، «إعانة الطالبين» للدمياطي: (2/348)])، لحديث نافعٍ أن «ابْنَةَ أخٍ لِصَفِيَةَ بِنْتِ عَبْدِ الله نَفِسَتْ بِالمزْدَلِفَةِ، وَتَخَلَّفَتْ هِيَ وَصَفِيَةُ حَتَّى أَتَتَا مِنًى بَعَدَمَا غَرَبَتِ الشَمْسُ يَوْمَ النَحْرِ، فَأَمَرَهُمَا عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ أَنْ تَرْمِيَا الجمْرَةَ حِينَ أَتَتَا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِمَا شَيْئًا»(٢٢- أخرجه مالك في «الموطإ»: (1/409)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (5/150)، عن نافع رحمه الله. والأثر صححه زكريا غلام قادر الباكستاني في «ما صح من آثار الصحابة في الفقه»: (2/840))، وقد رخَّص رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم لرعاءِ الإبل الرميَ بالليل فقال: «الرَّاعِي يَرْمِي بِاللَّيْلِ وَيَرْعَى بِالنَّهَارِ»(٢٣- أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى»: (5/151)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (5/622))
ويجوزُ للحاجِّ أن يرمي جمرة العقبة راكبًا من غير أن يدفع الناس، ولا يرمي غيرها يوم النحر إجماعًا، لحديثِ جابرٍ رضي الله عنه قال : «رَأَيْتُ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النحْرِ وَيَقُولُ : «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لاَ أَدْرِي لَعَلِّي لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ»(٢٤- أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (1/589)، رقم: (1297)، وأبو داود كتاب «المناسك»، باب في رمي الجمار: (2/340)، وأحمد: (3/337)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما)، وفي حديث قدامةَ بنِ عبدِ الله رضي الله عنه قال: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي جَمْرَةَ العَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ صَهْبَاءَ، لاَ ضَرْبَ وَلاَ طَرْدَ وَلاَ إِلَيْكَ إِلَيْكَ»(٢٥- أخرجه الترمذي كتاب «الحج»، باب ما جاء في كراهية طرد الناس عند رمي الجمار: (903)، والنسائي كتاب «الحج»، باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم: (3061)، وابن ماجه كتاب «المناسك»، باب رمى الجمار راكبا: (3035)، وأحمد: (3/413)، من حديث قدامة بن عبد الله العامري رضي الله عنه. والحديث صححه ابن الملقن في «البدر المنير»: (6/258)، والألباني في «المشكاة»: (2/806)). وقال ابنُ المنذر: « وأجمعُوا على أنَّه لا يرمي في يوم النحر غيرَ جمرةِ العقبة»(٢٦- «الإجماع» لابن المنذر: (52))، ولا يسنُّ الوقوف عند جمرة العقبة بعد رمي الحصيات السبع لأنّ «النَبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ انْصَرَفَ وَلَمْ يَقِفْ»(٢٧- أخرجه البخاري كتاب «الحج» باب إذا رمى الجمرتين يقوم ويسهل مستقبل القبلة: (1/420)، وابن ماجه كتاب «المناسك»، باب إذا رمى جمرة العقبة لم يقف عندها: (3032)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما).
وليس بمنى صلاةُ عيدٍ، ورميُ جمرة العقبة لهم كصلاةِ العيد لأهلِ الأمصار (٢٨- قال ابن تيمية -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» (26/170) : «ومما يغلط فيه الناس: اعتقاد بعضهم أنه يستحب صلاة العيد بمنى يوم النحر حتى قد يصليها بعض المنتسبين إلى الفقه، أخذا فيها بالعمومات اللفظية أوالقياسية وهذه غفلة عن السنة ظاهرة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاءه لم يصلوا بمنى عيدا قط، وإنما صلاة العيد بمنى هي جمرة العقبة، فرمي جمرة العقبة لأهل الموسم بمنزلة صلاة العيد لغيرهم ولهذا استحب أحمد أن تكون صلاة أهل الأمصار وقت النحر بمنى ولهذا خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم النحر بعد الجمرة كما كان يخطب في غير مكة بعد صلاة العيد ورمي الجمرة تحية منى كما أن الطواف تحية المسجد الحرام»)، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصلِّ جمعةً ولا عيدًا في السفر.
ويُسنُّ للإمام – حين ارتفاع الضحى يوم النحر– أن يخطبَ بمنى فينصح المسلمين و