هذا يسأل يقول: ما هي الطريقة الجيدة التي تجعل قارئ التفاسير المطولة يفهم المراد ويبقى مستحضراً في ذهنه لأقصى مدة؟
الطريقة الجيدة أن يكون بيده قلم، يضع علامات على ما يريده مما يذكره المفسر حول هذه الآية، ثم ينقل هذا الذي وضع عليه العلامة إلى مذكرته، ويراجعه متى ما أراد؛ لأن في كتب التفاسير المطولة أشياء مكررة، وأشياء قد لا يحتاجها طالب العلم، لكنه مع ذلك يوجد في ثنايا كلامه الكثير المطول كلام جيد، يحتاج إلى ترديد، مثل هذا يوضع عليه علامات فيردد إما في الكتاب نفسه أو بعد نقله إلى مذكرة.
هذا يقول: هل كل كبيرة داخل تحت مسمى الكفر دون كفر؟ وهل كل كبيرة مثل شرب الخمر والزنا تعتبر كفراً دون كفر؟
لا يسمى من المعاصي كفر إلا ما جاء النص بتسميته كفراً، فإن كان ما أطلق عليه الكفر مما يخرج من الملة فهو الكفر الأكبر، وإلا فهو الأصغر الذي يقول عنه أهل العلم كفر دون كفر، أما ما لم يطلق عليه في النصوص الشرعية كفر فلا يدخل تحت مسمى الكفر لا الأكبر ولا الأصغر، وإنما يسمى معصية، إما كبيرة أو صغيرة.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
قال الإمام القرطبي -رحمه الله-:
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ نُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [(48) سورة الفرقان].
تقدم في الأعراف مستوفى.
معروف أن (نشراً) هذه القراءة التي عليها المؤلف -رحمه الله- تعالى وهي قراءة نافع كما هو معلوم، والمؤلف يقرأ بقراءة نافع، ويفسر قراءة نافع، والذين طبعوا الكتاب أدخلوا الآيات على قراءة عاصم، وهذا تصرف لا يليق، إذا تصرفوا وأدخلوا المتن سواء كان القرآن كما هنا أو غيره من المتون أنه ينبغي أن يدخل متن يتفق مع شرح المؤلف، الآن الآية التي معنا: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} هذا أدخلوها من مصحف فاروق كما هو معلوم، ومرّ بنا مراراً التنبيه على مثل هذا، والمؤلف يقرأ على رواية نافع (نشراُ).
قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} [(48) سورة الفرقان].
فيه خمس عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {مَاء طَهُورًا} يتطهر به، كما يقال: وضوء للماء الذي يتوضأ به، وكل طهور طاهر وليس كل طاهر طهوراً.
نعم، هذا على مذهب من يجعل المياه ثلاثة أنواع، طهور وطاهر ونجس، أما من يجعل أو يقسم الماء إلى قسمين، طاهر ونجس، فيجعل الطهور من الطاهر.
فالظهور بفتح الطاء الاسم، وكذلك الوضوء والوقود، وبالضم المصدر وهذا هو المعروف في اللغة، قاله ابن الأنباري فبين أن الماء المنزل من السماء طاهر في نفسه مطهر لغيره، فإن الطهور بناء مبالغة في طاهر وهذه المبالغة اقتضت أن يكون طاهراً مطهراً، وإلى هذا ذهب الجمهور، وقيل أن {طَهُورًا} بمعنى طاهر، وهو قول أبي حنيفة، وتعلق بقوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [(21) سورة الإنسان] يعني طاهراً، وبقول الشاعر:
خليلي هل في نظرة بعد توبة *** أداوي بها قلبي علي فجورُ
إلى رجّح الأكفال غيد من الظبا *** عذاب الثنايا ريقهن طهورُ
فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر، وتقول العرب: رجل نؤوم وليس ذلك بمعنى أنه منيم لغيره، وإنما يرجع ذلك إلى فعل نفسه، ولقد أجاب علماؤنا عن هذا فقالوا: وصف شراب الجنة بأنه طهور يفيد التطهير عن أوضار الذنوب، وعن خسائس الصفات كالغل والحسد فإذا شربوا هذا الشراب يطهرهم الله من رحض الذنوب، وأوضار الاعتقادات الذميمة، فجاءوا الله بقلب سليم، ودخلوا الجنة بصفات التسليم، وقيل لهم حينئذ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [(73) سورة الزمر] ولما كان حكمه في الدنيا بزوال حكم الحدث بجريان الماء على الأعضاء كانت تلك حكمته في الآخرة.
الصيغة (طهور) صيغة مبالغة، وهذه المبالغة في هذه الصفة هل هي ترجع إلى الماء ذاته؟ بمعنى أنه أطهر من غيره، أو لأنه يتكرر منه التطهير، يعني أنه مطَهر أكثر من غيره؟ ولهذا يصلح لتطهير غيره أو أنه تكرر منه التطهير؟ وفرق بينهما، يعني الماء إذا خرج من الأرض أو نزل من السماء ثم وضع في فلتر، لا شك أنه تزداد طهوريته، ويزداد نقاؤه وصفاؤه ثم إذا نقّي مرة ثانية وثالثة وكل ما ينقّى يسلم من الشوائب فيكون أشد في التطهير، يعني هل هذا الطهور؛ لأنه تكرر تطهيره أو لأنه تكرر التطهر به؟ هذه المبالغة، المبالغة لا تأتي من شيءٍ واحد؛ لأن ما طَهُر مرةً واحدة لا يستحق صيغة المبالغة، يقال: طاهر، إنما يقال: طهور إذا كانت طهارته تكررت مراراً أو كان التطهر به تكرر مراراً، الذي يدعو إلى مثل هذا الكلام ما ذكره البغوي في شرح السنة من أن الماء المستعمل في الطهارة أكثر من مرة هو الذي يستحق أن يسمى طهور؛ لأنه تكرر التطهر به مثل الشكور مثل الصبور، ما يستحق هذه الصيغة إلا بعد أن يتكرر منه الفعل، لكن هل المراد من هذه الصيغة تكرار التطهر به أو تكرار طهارته بنفسه؟.
الآن البغوي يقرر يقول: أنه لا يستحق هذه الصيغة إلا إذا تكرر التطهر به، إذا تكرر تطهيره لغيره كالصبور والشكور، إذا تكرر منه الصبر والشكر، لكن هل استعماله في طهارة -في تطهير- يزيده نقاوة وطهارة وإلا يزيده كدرة؟ يزيد كدرة بلا شك؛ لأن هذا يخفف من طهارته؛ لأنه إنما استعمل بالطهارة لإزالة الأوساخ، يعني عندنا طهور صيغة مبالغة، وهذه مسألة ترى فيها شيء من الخفاء وكلام البغوي قد يمشي على بعض الناس، يقول: الطهور ما يتكرر التطهير به، فالماء الذي يستعمل في الوضوء أو في الغسل مرتين، ثلاث، خمس كلما يزيد التطهر به يزداد دخولاً وإيغالاً في هذه الصفة، يريد أن يقرر أن الماء المستعمل في الطهارة أولى بوصف الطهور من غير المستعمل، والعلماء معروف عندهم أن المستعمل لا سيما عند الحنابلة والشافعية المستعمل في رفع الحدث خلاص انتهى، صار طاهر ما يطهر غيره، ويريد أن يقرر كل ما استعمل في هذه الطهارة صار دخوله في هذا الوصف أولى؛ لأن عندنا فيما يتعلق بالماء أمران: طهارته بنفسه، وتطهيره لغيره، فطهارته بنفسه الأصل أنه طهور وطاهر، الأصل أنه طاهر؛ لأنه لم تخالطه نجاسة، فهو طاهر، إذا نقّي مرة ثانية تزداد طهارة، نقّي ثالثة خامسة عاشرة، كل مرة يزداد طهارة فيستحق الوصف بأنه طهور، والبغوي -رحمه الله- جعل المسألة عكس، أن كل ما استعمل في طهارة صار في الوصف أدخل.
طالب: هل كونه يزداد بعدد مرات التطهير به هل يترتب عليه حكم؟
ما يترتب، لكنه أنقى وأطهر من الذي لم يكرر أصلاً أو كرر مرة أو مرتين.
طالب: البغوي شافعي؟
إيه شافعي، يعني خلاف مذهبه، هو خلاف مذهبه.
وأما قول الشاعر: (ريقهن طهور)
فإنه قصد بذلك المبالغة في وصف الريق بالطهورية لعذوبته وتعلقه بالقلوب وطيبه في النفوس، وسكون عليل المحب برشفه حتى كأنه الماء الطهور، وبالجملة فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازاة الشعرية فإن الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حد الصدق إلى الكذب.
لكن المجازاة هل هي بتاء مربوطة وإلا مفتوحة؟
طالب: مفتوحة.
هذا الأصل، مجاز جمعه مجازات لكن يبقى أنه كتبها: (مجازاة) بالمربوطة يحتاج إلى نظر.
عندكم الطبعات الجديدة؟
طالب: مربوطة.
مثلما عندنا.
طالب: أليست مجاراة؟
مجاراة عندك؟
طالب: لا.
مجازات مجازات، يعني التجاوز، يعني مجاوزات، تجاوز الحد، مبالغة يعني، المقصود به المبالغة، وليس من باب المجاز لا، وقد يكون من باب المجاز عندهم، من باب المجاز؛ لأنه استعمال للفظ في غير موضعه، استعمل الطهر في غير ما وضع له.
ويسترسلون في القول حتى يخرجهم ذلك إلى البدعة والمعصية، وربما وقعوا في الكفر من حيث يشعرون ألا ترى إلى قول بعضهم:
ولو لم تلامس صفحة الأرض رجلها *** لما كنت أدري علةً للتيممِ
مبالغة، نسأل الله العافية، نسأل الله العافية.
وهذا كفر صراح نعوذ بالله منه، قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا منتهى لباب كلام العلماء، وهو بالغ في فنِّه إلا أني تأملت من طريق العربية فوجدت فيه مطلعاً مشرقاً، وهو أن بناء فعول للمبالغة إلا أن المبالغة قد تكون في الفعل المتعدي، كما قال الشاعر:
ضروب بنصل السيف سوق سمانها
وقد تكون في الفعل القاصر، كما قال الشاعر:
نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضلِ
فالأول فعله متعدي، يكثر منه الضرب لغيره، والثاني فعله قاصر يكثر النوم بنفسه لا لغيره فلا ينيم غيره، بينما الضروب يضرب غيره.
وإنما تؤخذ طهورية الماء لغيره من الحسن نظافة، ومن الشرع طهارة، كقوله -عليه السلام-: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) وأجمعت الأمة لغةً وشريعةً على أن وصف طهور يختص بالماء فلا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة، فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدل دليل على أن الطهور هو المطهِّر، وقد يأتي فعول لوجه آخر ليس من هذا كله، وهو العبارة به عن الآلة للفعل، لا عن الفعل، كقولنا: وقود وسحور بفتح الفاء فإنها عبارة عن الحطب والطعم المتسحر به.
والطُّعم يعني الطعام، كالوضوء عبارة عن الماء الذي يتوضأ به.
فوصف الماء بأنه طَهور (بفتح الطاء) أيضاً يكون خبراً عن الآلة التي يتطهر بها، فإذا ضمت الفاء في الوقود والسحور والطهور عاد إلى الفعل وكان خبراً عنه فثبت بهذا أن اسم الفَعول (بفتح الفاء) يكون بناءً للمبالغة ويكون خبراً عن الآلة، وهو الذي خطر ببال الحنفية، ولكن قصرت أشداقها عن لوكه، وبعد هذا يقف البيان عن المبالغة وعن الآلة على الدليل بقوله تعالى:{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} [(48) سورة الفرقان] وقوله -عليه السلام-: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) يحتمل المبالغة ويحتمل العبارة به عن الآلة فلا حجة فيه لعلمائنا، لكن يبقى قوله: {لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} [(11) سورة الأنفال] نص في أن فعله يتعدى إلى غيره.
الثانية: المياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالِطَها غيرها والمخالط للماء على ثلاثة أضرب: ضرب يوافقه في صفتيه جميعاً فإذا خالطه فغيره لم يسلبه وصفاً منهما لموافقته لهما وهو التراب، والضرب الثاني يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة.
يعني الوصفان هما الطهارة في نفسه والتطهير لغيره، فالتراب طاهر في نفسه مطهر لغيره، باعتبار أنه يُتطهر به في التيمم، فهذا إذا خالط الماء لم يؤثر فيه ما لم يمنع من تسميته ماءً كأن يكون طين مثلاً، أما إذا منع من تسميته ماء فلا يصح الوضوء به، والثاني: موافقته في إحدى صفتيه وهي الطهارة كسائر المائعات التي لا يطلق عليها اسم الماء كاللبن مثلاً، إذا صب على الماء بحيث من رآه لا يقول هذا ماء، أو المرق، أو غيرهما، إذا صبّ على الماء سلبه الاسم.
والضرب الثاني يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة، فإذا خالطه فغيره سلبه ما خالفه فيه، وهو التطهير كماء الورد وسائر الطاهرات.
والضرب الثالث يخالفه في الصفتين جميعاً، فإذا خالطه فغيره سلبه الصفتين جميعاً لمخالفته له فيهما، وهو النجس.
الثالثة: ذهب المصريون من أصحاب مالك إلى أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة وأن الكثير لا يفسده إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه من المحرمات ولم يحدُّوا بين القليل والكثير حداً يوقف عنده.
يعني هذا هو رأي الحنابلة والشافعية إلا أنهم يحدّون، يضعون حداً بين القليل والكثير، ويجعلون الحدّ الفاصل القلّتين، وهو أيضاً رأي الحنفية إلا أن تحديدهم والحدّ الفاصل بين القليل والكثير يختلف عن رأي الشافعية والحنابلة باعتبار أن الحنفية يقولون: القليل ما زاد عن عشرة في عشرة، أو ما إذا حرك طرفه لم يتحرك طرفه الآخر.
إلا أن ابن القاسم روى عن مالك في الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب ولم يكن غسل ما به من الأذى أنه قد أفسد الماء، وهو مذهب ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم ومن اتبعهم من المصريين، إلا ابن وهب فإنه يقول في الماء بقول المدنيين من أصحاب مالك، وقولهم ما حكاه أبو مصعب عنهم وعنه: أن الماء لا تفسده النجاسة الحالَّة فيه قليلاً كان أو كثيراً إلا أن تظهر فيه النجاسة الحالَّة فيه وتغير منه طعماً أو ريحاً أو لوناً.
وهذا ما يرجحه شيخ الإسلام -رحمه الله-، أن الماء لا ينتقل من وصف الطهارة إلى النجاسة حتى يتغير، قلّ أو كثر، وذلكم لأن حديث القلتين فيه كلام كثير لأهل العلم، وشيخ الإسلام معروف يصحح الحديث لكنه يعمل بمنطوقه دون مفهومه، مع تصحيحه للحديث يعمل بمنطوقه دون مفهومه، فلا يرى تأثر ما دون القلتين بما خالطه ما لم يتغير، أما إذا تغير فهو نجس بالإجماع قلّ أو أكثر، نجس بالاتفاق، والغزالي صاحب الإحياء تمنى أن لو كان مذهب الإمام الشافعي مثل مذهب الإمام مالك في الماء، أنه لا يحكم بنجاسته إلا إذا تغير قلّ أو أكثر، ولا شك أن هذا أوضح، ومن نظر في الكتب الفقهية المطولة سواءً من الشافعية أو الحنابلة أو الحنفية رأى شيء لا يليق بسهولة الشريعة ويسرها في كثير من مسائل الطهارة والمياه عنت وتشديد شيء لا يليق بسهولة الشريعة ولذا المرجح في هذه المسألة هو قول مالك -رحمه الله-.
وذكر أحمد بن المعدل أن هذا قول مالك بن أنس في الماء وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحاق ومحمد بن بكير وأبو الفرج الأبهري وسائر المنتحلين لمذهب مالك من البغداديين؛ وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وداود بن علي، وهو مذهب أهل البصرة، وهو الصحيح في النظر وجيِّد الأثر.
وقال أبو حنيفة: إذا وقعت نجاسة في الماء أفسدته كثيراً كان أو قليلاً، إذا تحققت عموم النجاسة فيه ووجه تحققها عنده أن تقع مثلاً نقطة بولٍ في بركة فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحرك أحدهما فالكل نجس وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس وفي المجموعة نحو مذهب أبي حنيفة.
وقال الشافعي: بحديث القلتين وهو حديث مطعون فيه، اختلف في إسناده ومتنه، أخرجه أبو داود والترمذي وخاصة الدارقطني فإنه صدَّر به كتابه وجمع طرقه، قال ابن العربي: وقد رام الدارقطني على إمامته أن يصحِّح حديث القلتين فلم يقدر، وقال أبو عمر بن عبد البر: وأما ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلَّتين فمذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت في الأثر؛ لأنه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل؛ ولأن القلتين لا يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع، فلو كان ذلك حداً لازماً لوجب على العلماء البحث عنه ليقفوا على حدّ ما حدّه النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه من أصل دينهم وفرضهم ولو كان ذلك كذلك ما ضيعوه، فلقد بحثوا عما هو أدون من ذلك وألطف.
قلت: وفيما ذكر ابن المنذر في القلتين من الخلاف يدل على عدم التوقيف فيهما والتحديد، وفي سنن الدارقطني عن حمّاد بن زيد عن عاصم بن المنذر قال: القلال الخوابي العظام، وعاصم هذا هو أحد رواة حديث القلتين ويظهر من قول الدارقطني أنها مثل قلال هجر لسياقه حديث الإسراء عن أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لما رفعتُ إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة...)) وذكر الحديث، قال ابن العربي: وتعلق علماؤنا بحديث أبي سعيد الخدري في بئر بضاعة، رواه النسائي والترمذي وأبو داود وغيرهم.
أن الماء طهور لا ينجسه شيء، سئل عن بئر بضاعة وما يلقى فيها من الحيض والنتن فقال: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) وأما الزيادة: (إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه) هذه ضعيفة بالاتفاق، باتفاق الحفاظ، لكن الحكم مجمع عليه.
وهو أيضاً حديث ضعيف لا قدم له في الصحة فلا تعويل عليه، وقد فاوضت الطوسي الأكبر في هذه المسألة فقال: إن أخلص المذاهب في هذه المسألة مذهب مالك، فإن الماء طهور ما لم يتغير أحد أوصافه إذا لا حديث في الباب يعول عليه، وإنما المعول على ظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} [(48) سورة الفرقان] وهو ما دام بصفاته فإذا تغير عن شيء منها خرج عن الاسم؛ لخروجه عن الصفة، ولذلك لما لم يجد البخاري -إمام الحديث والفقه- في الباب خبراً يعول عليه قال: (باب إذا تغير وصف الماء) وأدخل الحديث الصحيح: ((ما من أحد يكلم في سبيل الله -والله أعلم بمن يكلم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك)) فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الدم بحاله وعليه رائحة المسك، ولم تخرجه الرائجة عن صفة الدموية، ولذلك قال علماؤنا: إذا تغير الماء بريح جيفة على طرفه وساحله لم يمنع ذلك الوضوء منه.
يعني إذا كان التغير بسبب المجاورة لا المخالطة، بسبب المجاورة لا تؤثر.
ولو تغير بها وقد وضعت فيه لكان ذلك تنجيساً له للمخالطة، والأول مجاورة لا تعويل عليها، قلت: وقد استدل به أيضاً على نقيض ذلك وهو أن تغير الرائحة يخرجه عن أصله، ووجه هذا الاستدلال أن الدم لما استحالت رائحته إلى رائحة المسك خرج عن كونه مستخبثاً نجساً، وأنه صار مسكاً، وإن المسك بعض دم الغزال، فكذلك الماء إذا تغيرت رائحته وإلى هذا التأويل ذهب الجمهور في الماء، وإلى الأول ذهب عبد الملك، قال أبو عمر: جعلوا الحكم للرائحة دون اللون فكان الحكم لها، فاستدلوا عليها -في زعمهم- بهذا الحديث، وهذا لا يفهم منه معنى تسكن إليه النفس، ولا في الدم معنى الماء فيقاس عليه، ولا يشتغل بمثل هذا الفقهاء، وليس من شأن أهل العلم اللغز به وإشكاله، وإنما شأنهم إيضاحه وبيانه، ولذلك أخذ الميثاق عليهم ليبيننه للناس ولا يكتمونه، والماء لا يخلو تغيره بنجاسةٍ أو بغير نجاسة، فإن كان بنجاسةٍ وتغير، فقد أجمع العلماء على أنه غير طاهر ولا مطهر، وكذلك أجمعوا أنه إذا تغير بغير نجاسة أنه طاهر على أصله، وقال الجمهور: إنه غير مطهر إلا أن يكون تغيره من تربة.
وحمأةٍ؟ كذا وحمأةٍ؟ عندنا الحاء ليست موجودة.
إلا أن يكون تغيره من تربة وحمأة، وما أجمعوا عليه فهو الحق لا إشكال فيه ولا التباس معه.
الرابعة: الماء المتغير بقراره كزرنيخ أو جير يجري عليه، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه، لا يمكن الاحتراز عنه، فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به؛ لعدم الاحتراز منه والانفكاك عنه، وقد روى ابن وهب عن مالك أن غيره أولى منه.
غيره أولى منه؛ لأنه تغير، وإن كان يشق التحرز منه كالماء الذي تغير بطول المكث، الماء الآجن، يجوز الوضوء به ويصح اتفاقاً، إلا ما يحكى عن ابن سيرين من كراهته، وهو موافق لقول مالك غيره أولى منه.
الخامسة: قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: ويُكره سؤر النصراني وسائر الكفار، والمدمن الخمر، وما أكل الجيف كالكلاب وغيرها، ومن توضأ بسؤرهم فلا شيء عليه حتى يستيقن النجاسة، قال البخاري: وتوضأ عمر -رضي الله عنه- من بيت نصرانية، ذكر سفيان عيينة قال: حدثونا عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما كنا بالشام أتيت عمر بن الخطاب بماء فتوضأ منه فقال: من أين جئت بهذا الماء؟ ما رأيت ماء عذباً ولا ماء سماءٍ أطيب منه، قال قلت: جئت به من بيت هذه العجوز النصرانية فلما توضأ أتاها فقال: أيتها العجوز أسلمي تسلمي بعث الله محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالحق، قال: فكشفت عن رأسها فإذا مثل الثغامة فقالت: عجوز كبيرة، وإنما أموت الآن! فقال عمر -رضي الله عنه-: اللهم اشهد، خرجه الدارقطني حدثنا الحسين بن إسماعيل قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم البوشنجي قال: حدثنا سفيان فذكره.
ورواه أيضاً عن الحسين بن إسماعيل قال: حدثنا خلاد بن أسلم حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- توضأ من بيت نصرانية أتاها فقال: أيتها العجوز أسلمي، وذكر الحديث بمثل ما تقدم.
لو أن الله -جل وعلا- كتب لها السعادة لأسلمت؛ لأن كونها تموت الآن أفضل أن تسلم، أفضل أن تسلم من أن تصرّ على كفرها – نسأل الله السلامة والعافية-.
السادسة: فأما الكلب إذا ولغ في الماء فقال مالك: يغسل الإناء سبعاً ولا يتوضأ منه وهو طاهر، وقال الثوري: يتوضأ بذلك الماء ويتيمم معه، وهو قول عبد الملك بن عبد العزيز ومحمد بن مسلمة، وقال أبو حنيفة: الكلب نجس ويغسل الإناء منه؛ لأنه نجس وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، وقد كان مالك يفرق بين ما يجوز اتخاذه من الكلاب وبين ما لا يجوز اتخاذه منها في غسل الإناء من ولوغه، وتحصيل مذهبه أنه طاهر عنده لا يُنجِّس ولوغه شيئاً ولغ فيه طعاماً لا غيره إلا أنه استحب هراقة ما ولغ فيه من الماء ليسارة مؤونته، وكلب البادية والحاضرة سواء، ويغسل الإناء منه على كل حال سبعاً تعبداً، هذا ما استقر عليه مذهبه عند المناظرين من أصحابه.
ذكر ابن وهب قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة فقيل له: إن الكلاب والسباع ترد عليها فقال: ((لها ما أخذت في بطونها، ولنا ما بقي شراب وطهور)) أخرجه الدارقطني، وهذا نص في طهارة الكلاب وطهارة ما تلغ فيه، وفي البخاري عن ابن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يرشون شيئاً من ذلك.
في بعض الروايات، بعض الروايات في رواية الصحيح وتبول، تقبل وتدبر وتبول، هذه في بعض الروايات، لا أقول الروايات المخرجة في الصحيح، إنما الروايات في الصحيح عن البخاري، يعني بعض من يروي الصحيح عن البخاري أثبت هذه اللفظة وبعضهم لم يثبت، لا أنها ثابتة في بعض الروايات دون بعض؟ نفرق بين أن تكون الرواية في البخاري وتكون الرواية عن البخاري، هذه في بعض الروايات عن البخاري لا في البخاري عن غيره.