يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"عن سهل بن أبي حتمة -رضي الله تعالى عنه- قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود" ابن عمه "إلى خيبر، وهي يومئذٍ صلح" يعني في وقت صلح وهدنة "فتفرقا" كل منهما ذهب في شأنه، هذا إلى جهة وذلك إلى جهة، عبد الله بن سهل ومحيصة "فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً" قتل "فدفنه، ثم قدم المدينة" ولا أنكر عليه النبي -عليه الصلاة والسلام-، ما قال: لماذا دفنته؟ ما انتظرت حتى تنتهي القضية؟ دفنه؛ لأن جنازة المسلم لا بد من التعجيل بها، لكن إذا اقتضت المصلحة تأخير الدفن بما تتطلبه القضية من بحث في أدلة جنائية، أو ما يعين على معرفة القاتل فلا بأس، المقصود أنهم ما عندهم آلات تدل على شيء من ذلك، ولا تحاليل ولا..، عندهم قواعد شرعية مقدمات ونتائج، وهذه طبيعة القضاء الشرعي، نتائجه مبنية على مقدمات شرعية.
"فدفنه، ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-" فيتقص لهم من قاتله، لعل الوحي ينزل عليه فيعين له القاتل، لعل الوحي ينزل عليه، هذا تصورهم، فيقتل القاتل، لكن ما الذي حصل؟ الشرع ليس لوقت معين أو لحقبة واحدة، ليس لزمن النبي -عليه الصلاة والسلام-، يعني إذا عين قاتل هذا المقتول فمن يعين من قتل من بعده؟ بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ لا شك أنه مؤيد بالوحي، لكنه بشر يقضي على نحو ما يسمع، بشر قدوة وأسوة للحكام وللقضاة الذين أنى لهم بالوحي بعد موته -عليه الصلاة والسلام-، يعني لو أوحي إليه: إن القاتل فلان، لكن اللي يقتل بعده بعد وفاة النبي من؟ كيف يتعامل معه؟ هذا تشريع.
"إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذهب عبد الرحمن يتكلم" لماذا؟ ما الذي جعله يتكلم الأول؟ لأنه أخ للقتيل، هو صاحب الدم، لكن السن له قدر في الشرع عندنا، وهذا أدب شرعي أن جعل للكبير ميزة على الصغير، لما ذهب يتكلم قال -عليه الصلاة والسلام-: ((كبر كبر)) والحكم الشرعي سواء استعجلت أو بادرت أو تأخرت لم يختلف، ولذا بعض الناس في بعض المواطن يتصرف تصرفات يظنها تنفعه في قضيته، وهي بالعكس تضره، في مجالس القضاء يسمع بعض الكلام الذي لا يخدم القضية، ما له قيمة في القضية، بل قد يضر، فعلى الإنسان أن يتبع القواعد الشرعية، النبي -عليه الصلاة والسلام- قال له: ((كبر كبر)) يعني اترك الكبير يتكلم قبلك، وهذا من الأدب الشرعي أن لا يتقدم الصغير بين يدي الكبير، وقل مثل هذا في جميع الأبواب، حتى في إمامة الصلاة، فأقدمهم سناً، فالكبر له شأن في الشريعة، فيقدم الكبير، ويحترم الكبير، ويحنى على الصغير، ويعطف عليه، لا بد من أن تسود هذه الروح بين أفراد المجتمع الإسلامي، الصغير يحترم الكبير، ولا يتقدم بين يديه، وبالمقابل أيضاً الكبير يعرف حق الصغير، وله شأنه، وهناك أمور لها قدر في الشرع، فأحياناً الجهة إذا كان عن جهة اليمين، إذا تعارض أكثر من جهة تستحق التقديم، صغير على الجهة اليمنى وكبير على الجهة اليسرى، ينظر في هذه الأمور التي تقتضي التقديم، ويوازن بينها ويرجح، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما شرب أعطى الصغير، أعطى ابن عباس، أبو بكر عن يساره، لما شرب أعطى الأعرابي، أبو بكر عن يساره وهو الكبير، فملاحظة مثل هذه الأوصاف ما لم يترتب الناس، أما إذا ترتبوا فليبن، مقدم في الشرع، فمثل هذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((كبر كبر)) فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يوجه أمة، يعني قد يقال: هذا منكوب المسكين أخوه مقتول دعوه يتكلم، هذا صاحب الشأن، نقول: تبقى؛ لأن القواعد الشرعية تمضي على أي ظرف وعلى أي حال، والعجلة ما تخدم، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما بعث علي -رضي الله تعالى عنه- إلى خيبر، حال حرب الناس تطيش عقولهم، في أقل من الحرب الناس تضيق عقولهم، النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((أنفذ على رسلك)) العجلة ما تأتي بشيء، التأني هو الذي يجعل في الغالب النتائج حميدة، والرفق في الأمور كلها ما دخل إلا زان الشيء، والله -جل وعلا- رفيق يحب الرفق، والعجلة من الشيطان، فعلى الإنسان أن يستعمل هذا الأدب الشرعي في جميع أحواله، ويحمد العاقبة.
"((كبر كبر)) وهو أحدث القوم" يعني أصغرهم سناً "فسكت" لأنه مسلم، مؤمن، ما دعته نفسه الأمارة أن يقول مثل ما قالت المرأة: إنك لم تصب بمصابي، أو مثل ما قال الأنصاري: إن كان ابن عمتك، لا، سكت "فتكلما" حويصة ومحيصة "فقال: ((أتحلفون؟))" لما أخبروا النبي -عليه الصلاة والسلام- بالواقعة فقال: ((أتحلفون وتستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم؟)) هذه القسامة، والحديث أصل في مشروعيتها، إذا وجد قتيل بين قوم لا يعرف القاتل بعينه، وهناك لوث يغلب على الظن أن القاتل فلان، فمع هذا اللوث يعني وجد ما يدل على خلاف بينه وبين فلان، أو توعده، أو حصل بينهم إشكال، فإذا وجد مثل هذا يتجه القول بالقسامة ((أتحلفون وتستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم؟)) دم، يستدل به من يقول: إنه إذا تمت القسامة وحلف أولياء الدم أن فلاناً قتله يستحقون قتله، يستحقون دمه، ويقتل بهذا، ومنهم من يقول: إن القسامة تقرر الدية لا تقرر القتل، "((وتستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم؟)) قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟!" نعم المسلم يحترم اليمين، ولا يجعل الله عرضة ليمينه، ما رأى ولا شهد كيف يحلف؟ وإن كانت مصيبته مصيبة، المسألة قتل، وأيضاً المدعى عليه ليس بمسلم؛ لأن بعض الناس يقول: ما دام ما هو بمسلم سهل، احلف والخسارة وش هي؟ كافر كافر، وش يقتل؟ الأمر هين، نقول: لا يا أخي هذا شرع، له مقدماته وله نتائجه؛ لأن بعض الناس يقول: ما دام الشخص مؤذي نشهد عليه يؤدب ويعزر ولو ما حصل شيء، الغايات لا تبرر الوسائل، أنت ودك فلان والله يؤدب اضبط عليه ما يقتضي تأديبه، أما تقول: والله أشهد عليه أنه حصل، أو فعل أو ما فعل علشان يؤدب ما هو بصحيح، شهادة زور هذه، وإن كان المشهود عليه مستحق من جهة أخرى، تقول: والله فلان جارنا ولا يصلي وآذنا وأتعبنا، لماذا لا أشهد عليه بأنه فعل كذا، أو قال كذا مما يقتضي ردعه وتأديبه والله المستعان كله واحد، إن أُدب هنا أو أُدب هنا؛ لأن بعض الناس قد يتصور هذا، يقول: إن كان القصد الصلاة ما هو بمأخذ حق الله منه، نشهد عليه أنه تكلم كلام يعني يقتضي سجنه أو أدبه أو شيء وهو مستحق، نقول: لا يا أخي لا يجوز لك أن تفعل هذا، ولذا قالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ والمشهود عليه يهودي "قال: ((فتبرئكم يهود بخمسين يميناً)) قالوا: وكيف نأخذ بأيمان قوم كفار؟" يحلفون وش المانع؟ الكافر يحلف، طيب أنتم ما أنتم بحالفين، ولا تقبلون أيمانهم وش نسوي؟ يعني ليس من الصعب يعني من الميسور جداً أن ينزل الوحي ويقول: إن القاتل فلان، لكن من للقضايا التالية إلى قيام الساعة، لو لم ينزل هذا النص، فإما أن تحلفوا وتستحقون، وإما أن تتبرأ اليهود أو المدعى عليهم بأيمان خمسين، وتنتهي القضية، ومع ذلكم لم يحلفوا، نكلوا ورفضوا قبول أيمان اليهود، الأصل أن يقول: خلاص انتهت القضية، لكن كره النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يبطل دم مسلم "فوداه بمائة من إبل الصدقة" لأن دم المسلم محترم، هنا ما فيه لوث، وإن كان من عادة اليهود الغدر، ومن عادتهم قتل الأنبياء فضلاً عن الصالحين، لكن الأمور العامة لا تقتضي الحكم الخاص، هل يقول قائل: إن اليهود اجتمعوا عليه وقتلوه؟ نعم؟ هم أهل غدر وقتلة الأنبياء، اجتمعوا عليه فقتلوه، ما يمكن يقال هذا؟ إذاً كيف تتهم شخص بعينه أنه قتله من بين قوم اتصفوا بوصفه وهو الغدر؟ شوف العدل في الشريعة مع الموافق والمخالف، لكن بالمقابل أحياناً يجد الإنسان نفسه لا مفر له من الاعتراف وهو برئ، يعني عكس هذا، شخص يذبح ذبيحة في خربة بالأجرة، جزار هو، فلما خرج والسكين تقطر دم إلى عند باب الخربة هذا شخص يتشحط في دمه، قبضوا عليه قالوا: أنت قتلته، يستطيع أن يتنصل أو ينكر؟ السكين مشهورة، والدم مقطور منها، والرجل يتشحط في دمه، هذه ذكرها ابن القيم -رحمه الله- في الطرق الحكمية، أخذوه وحكم عليه لأنه هو القاتل، لكن هل يجوز له بأن يعترف بأنه هو القاتل أو لا بد أن ينكر؟ يقول ابن القيم أخذوه وحكم عليه بالقتل، ولما أريد التنفيذ خرج شخص من بين المتفرجين، وقال: أنا الذي قتلته، فلان بريء منه، فأنقذه الله -جل وعلا-، لكن قد لا يجد من ينقذه، فعلى الإنسان ألا يعرض نفسه إلى مواقع التهم، ولا بد للإنسان أن يستبرئ لدينه وعرضه، فلا يعرض نفسه لمواقع التهم، هذه نقيض ما عندنا، مقتول ما عُرف قاتله، وعندنا يضيع دمه؟ ما يضيع، يودى من بيت المال "فعقله النبي -صلى الله عليه وسلم- من عنده" وفي حديث حماد بن زيد فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((يقسم خمسون منكم على رجل منهم)) على رجل القاتل واحد، فيدفع برمته، الرمة الأصل فيها الحبل الذي يقاد به الشخص، أو تقاد به البهيمة لتسلم بكاملها إلى من يطلبها، قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ كيف نحلف على شيء ما شهدناه؟ قال: ((فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم)) قالوا: يا رسول الله قوم كفار، يعني ما يترددون، نعم إذا صارت مثل هذه القضية بين مسلم وكافر، المسلم ما عنده بينة، يعني أقرض كافر مبلغ من المال فلم يحضره أحد ثقة به، يهودي وإلا نصراني وإلا مستأمن، أقرضه مبلغ من المال، أو له عليه معاملة، ثم بعد ذلك أدعى عليه فأنكر، أين بينتك؟ أين البينة؟ والله ما عندي بينة الثقة موجودة، وما توقعت أنه يبي ينكر، إذاً يحلف، البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، كافر يبي يحلف، وش تبونا نقول؟ فهنا يأتي دور القاضي وحذق القاضي، والقضاة من كثرة ما يمر عليهم من مثل هذه المسائل يكشفون الحق في الغالب، عرض قضية على واحد من القضاة في البحرين، قبل ستين أو سبعين سنة، شخص من الذين يعبدون البقر عنده وديعة لمسلم فجحدها، فجيء به إلى القاضي، فقال: هات البينة يقول للمسلم، قال: ما عندي بينة، قال: إذاً يحلف، قال: وش يحلف؟ عبد البقر يحلف؟ لو تبيه يحلف..، دعه يحلف بالبقرة، يشرك علشان حطام الدنيا، نقره على شركه من أجل حطام الدنيا ما يمكن، لكن الشيخ جاء بسكين، وقال للمدعى عليه: اقبضها بيدك، وشهرها هكذا فقال: ورب البررة، قال: ورب البررة، ما عنده مشكلة، يحلف بالله -جل وعلا-، مهلك الفجرة، ما عنده إشكال؛ لأنه ما يظن نفسه فاجر هو، لئن كان صادقاً لأخذن هذه السكين وأذبح البقرة، قال: لا، لا، أنا مالي أدفع وبقرة ما يذبح، وهو كافر، كافر واعتز بدينه الباطل، ولم يجعل معبوده عرضة لمثل هذا، ومع الأسف الشديد أن بعض المسلمين يحلف الأيمان المغلظة، والأيمان الغموس، ومن أيسر الأمور أن يقول: الله، وبلى والله، وتالله، على أيسر الأشياء مع النهي عن ذلك، فعلى المسلم أن يحفظ يمينه، لكن إذا حلف المسلم الذي ليس من عادته امتهان اليمين، فإبرار المقسم من حقوق المسلم على المسلم، وعلى كل حال الحديث أصل في القسامة، وهي أن يوجد قتيل بين قوم لا يدرى القاتل بعينه، ولا بد من وجود اللوث، يوجد قرينة ترجح أن فلان قتل، ومع ذلكم على المسلم أن يحفظ يمينه، ولا يجعل الله عرضة ليمينه، فيتحرى فيها كما تحرى أولياء الدم في هذه القصة، نعم.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن جارية وجد رأسها مرضوضاً بين حجرين، فقيل: من فعل هذا بك؟ فلان، فلان، حتى ذكر يهودي فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فاعترف، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يرض رأسه بين حجرين.
ولمسلم والنسائي: عن أنس -رضي الله عنه- أن يهودياً قتل جارية على أوضاح فأقاده بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
في هذا الحديث يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
وعن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- أن جارية وجد رأسها مرضوضاً بين حجرين، فقيل: من فعل هذا بك؟ لا تستطيع الكلام، ولا تستطيع التصريح باسمه ولا بوصفه، إنما تحرك بعض أطرافها، تحرك رأسها، عرض عليها أسماء يظن بهم أنهم قتلوها، فلان؟ أومأت برأسها، لا، فلان؟ فلان؟ كلهم تقول: لا، قالت أشارت برأسها أن نعم، فلان الذي قتلها، وهذه لا تزال في حيز الدعوى، دعوى هذه، يكفي هذا في إقامة الحد عليه؟ لا يكفي، لكن هذه قرينة تعطي طرف الخيط "فأخذ اليهودي فاعترف" أخذ غرر فاعترف "فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرض رأسه بين حجرين" ولمسلم والنسائي: عن أنس أن يهودياً قتل جارية على أوضاح" الأوضاح الحلي، وبعضهم يقول: من فضة، وبعضهم يقول: هي الخلاخيل التي تجعل في الرجلين "فأقاده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فإنما أخذ بإقراره واعترافه لا بدعواها، وإنما دعواها جعلت قرينة على القاتل، يعني تغلب الظن، لكن لا بد من اليقين، وهنا لما أخذ وقرر اعترف، طيب قد يقول قائل: لو لم يعترف هل يتحايل معه حتى يقر؟ وهل يضرب أو تستعمل معه القوة حتى يقر؟ من أهل العلم من يرى أنه إذا اتجهت التهمة إليه، وقوي في غلبة ظن القاضي أنه يفعل مثل هذا، يعني قامت القرائن والأدلة على أنه يفعل مثل هذا تستعمل معه القوة حتى يقر ويعترف، ولا يؤخذ إلا بإقراره هو، وهنا لما ذكرت أن فلاناً هو الذي قتلها صار هذا قرينة على أنه قتل، وهو أيضاً من اليهود، وهم قتلة الأنبياء، فغلب على الظن أنه هو القاتل، فأخذ وقرر فأقر وأعترف "فأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يرض رأسه بين حجرين" جاء في الحديث: ((لا قود إلا بالسيف)) ولذا يرى جمع من أهل العلم أنه لا قتل إلا بالسيف، لكن منهم من يرى مثل ما عندنا، وحديث: ((لا قود إلا بالسيف)) فيه ضعف، والذي عندنا في الصحيحين، رض رأسه بين حجرين، ما قتل في الصحيح، وهذا من المماثلة في القتل {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [(126) سورة النحل] هذه مماثلة وليست مثلة، المماثلة في مثل هذا الخبر شرعية، طيب سقاه سماً، يقتل بالسم، ضربه بمثقل يقتل بمثقل، بمحدد يقتل بمحدد، والنهي عن المثلة معروف، أما المماثلة فهي شرعية، {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [(126) سورة النحل] اللهم إلا إن كانت وسيلة القتل ابتداء محرمة، سقاه خمراً فمات نقول: يسقى خمر حتى يموت؟ لا، ماتت المرأة من أثر الوطء بالمحرم، نقول: يوطأ حتى يموت، مات باللواط مثلاً صبي مات باللواط، نقول: يلاط باللائط حتى يموت؟ هل نقول: إن المماثلة تدخل في هذا؟ لا تدخل بمثل هذا، إذا كانت الوسيلة محرمة فلا، لكن من أهل العلم من يستروح إلى أن المماثلة مطلوبة إلى الحد المشروع، سقاه خمراً يسقى خلاً حتى يموت؛ لأن الخل مباح، فيسقى حتى يموت، مات باللوطية مثلاً يدخل في دبره خشبة أو شيء حتى يموت، تقطع أمعاءه، وتتلف حشوه حتى يموت، قال بهذا بعض أهل العلم، لكن مثل هذه الأمور ينبغي أن يترفع عنها، إن أمكنت المماثلة لأمر مباح فلا بأس، وهنا الحديث نص في الباب، رض رأسه بين حجرين، وإن كان سببه القتل محرماً، أو لا يمكن تنفيذه إلا بارتكاب محرم، فإن مثل هذا يعدل عنه إلى الأمور المباحة، اعترف كم اعترف من مرة؟ يكفي أن يقر مرة واحدة، أو لا بد أن يقر مراراً على عدد ما يثبت به القتل من الشهود مثلاً، الاعتراف بالزنا ماعز اعترف أربع مرات، أقر على نفسه أربع مرات، فهل نقول في القتل الذي يحصل القود بشهادة اثنين لا بد أن يعترف مرتين أو يكفي أنه اعترف فقتل خلاص انتهى؟ اعتراف واحد يكفي؟ نعم؟ هذا الحديث ليس فيه إلا أنه اعترف، ومثل هذا الإجمال وعدم الاستفصال في مثل هذا ينزل منزلة العموم، فيكفي الاعتراف مرة واحدة، شخص أحرق شخصاً صب عليه بنزين وأشعل فيه النار، هل نقول: إن المماثلة أن يصب عليه بنزين ويحرق بالنار؟ أو نقول: جاء النهي عن التحريق بالنار فيعدل عنه إلى غيره؟ وعلي -رضي الله عنه- أحرق الغلاة الذين غلوا به وألهوه.
لما رأيت الأمر أمراً منكراً *** أججت ناري ودعوت قُنبرا
فأحرقهم، وجاء تحريق بعض العصاة، كاللوطي بعض أهل العلم من الصحابة من أفتى بتحريقه، على كل حال جاء النهي عن التحريق بالنار، وأنه لا يعذب بالنار إلا الله -جل وعلا-، فيعدل عنها إلى غيرها، نعم.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما فتح الله تعالى على رسوله -صلى الله عليه وسلم- مكة قتلت خزاعة رجلاً من بني ليث بقتيل كان لهم في الجاهلية، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إن الله -عز وجل- قد حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه حرام، لا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدى)) فقام رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاه، فقال: يا رسول الله أكتبوا لي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اكتبوا لأبي شاه)) ثم قام العباس -رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله إلا الإذخر فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إلا الإذخر)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما فتح الله تعالى على رسوله -عليه الصلاة والسلام- مكة" في السنة الثامنة من الهجرة، "قتلت هذيل رجلاً من بني ليث" كذا في العمدة، والذي في البخاري: من خزاعة، "من بني ليث بقتيل كان لهم في الجاهلية، فقام النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: ((إن الله -عز وجل- قد حبس عن مكة الفيل))" في القصة المعروفة لما أراد أبرهة هدم الكعبة، ووجه إليها جنوده يتقدمهم فيل عظيم، فحبسه الله -جل وعلا- عن مكة ((وسلط عليها رسوله والمؤمنين)) أذن لهم في فتحها بالسيف عنوة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- دخل مكة وعلى رأسه المغفر، والخلاف بين أهل العلم هل فتحت صلح أو فتحت عنوة؟ معروف، والأكثر على أنها فتحت عنوة ((وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وأنها لم تحل لأحد كان قبلي)) لأنها حرام، حرمها الله -جل وعلا- على لسان خليله -عليه الصلاة والسلام- ((لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد بعدي)) فلا يجوز القتال بمكة ((وإنما أحلت لي ساعة من نهار)) فقاتل النبي -عليه الصلاة والسلام- أهل مكة ((وإنها ساعتي هذه)) يعني ثم عادت حراماً إلى قيام الساعة، لا يجوز فيها القتال، لكن من استحق القتل، ولجأ إلى الحرم النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((اقتلوه)) يعني ابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، وهو في هذه الساعة التي أحلت للنبي -عليه الصلاة والسلام-، لكن هل يقتل القاتل بمكة؟ من ابتدأ قتال هل يقاتل؟ وهل يدفع الصائل؟ وهل تقام الحدود بمكة؟ الجمهور نعم، تقام الحدود بمكة، يقتل القاتل؛ لأن هذا القتل بحق، طيب قد يقول قائل: القتل بغير حق لا يجوز لا بمكة ولا بغير مكة، القتل بغير حق لا يجوز بمكة ولا بغير مكة، وإذا كانت مكة تقام فيها الحدود، ويقتل فيها القاتل، ويرجم الزاني، وش صار مزية مكة عن غيرها؟ يصير لها مزية أو ما لها مزية؟ نعم الله -جل وعلا- حرم مكة، واستثنى هذه الساعة التي دخلها النبي -عليه الصلاة والسلام- مقاتلاً، ولا شك أن حرمة مكة من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، وأن شأن القتل فيها أعظم من شأنه في غيرها، وأن مجرد الهم بالإلحاد في الحرم، مجرد الهم يؤاخذ عليه {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [(25) سورة الحـج] فمجرد الهم، الهم في غيرها من البلدان لا مؤاخذة عليه؛ لأنه من مراتب القصد التي هي دون العزم، ولا مؤاخذة إلا على العزم، لكن مكة الهم، مجرد الهم يؤاخذ عليه، لا شك أن شأن مكة عظيم جداً، تعظيم القتال والقتل فيها أعظم منه في غيرها، لكن القصاص في الحرم يقول به الأكثر، ومنهم من يقول: إنه إذا أريد القصاص من شخص يخرج عن الحرم، إذا رفض أن يخرج يضيق عليه، لا يطعم ولا يسقى حتى يخرج، فإذا خرج اقتص منه, ولا شك أن مثل هذا الباعث عليه تعظيم هذه البقعة، وهي من تعظيم الله شعائر الله، من تعظيم ما عظمه الله -جل وعلا-، ويبقى أن السؤال إما أن يقال بعدم القتل بالكلية في مكة، لا القتل ابتداء ولا القتل عقوبة واقتصاص، أو يقال: إن القتل المباح، القتل بحقه يجوز في مكة كغيرها، وحينئذٍ يكون تعظيم مكة بالنسبة للقتل نظري، يكون بس مفاده تعظيم شأن القتل فيها، من أجل كف من تسول له نفسه أن يقتل في مكة، النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار)) هذه الساعة التي أحلت له هل قتل فيها بحق أو بغير حق؟ بحق، وإذا قلنا: إن القتل بحق يجوز في مكة كالقصاص مثلاً نعم، أو تنفيذ الحدود بمكة كغيرها، والقتل الحرام يحرم في مكة وغير مكة، إذاً ما الفائدة؟ من يقول بهذا القول يقول: إن الفائدة تعظيم شأن القتل، وردع من تسول له نفسه أن يقتل في الحرم، وأما الفائدة العملية بعد وقوعه هي كغيرها من البلدان، يحرم فيها ما يحرم في غيرها، ويباح فيها ما يباح في غيرها، والذين يقولون: إنها لا تقام الحدود، ولا يتقص من المجرمين في مكة يستدلون بمثل هذا الحديث، وعلى كل حال ابن حجر يقول: وفي الحديث جواز إيقاع القصاص في الحرم؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- خطب بذلك في مكة، ولم يقيده بغير الحرم، خطب بذلك في مكة يعني المحرم مكة، وأما الحرم وهو أوسع دائرة من مكة يجوز القصاص فيها، هذا كلام ابن حجر، لكن افترض المسألة في أن مكة زادت عن الحرم، تعدت حدود الحرم ينحل الإشكال؟ ما ينحل الإشكال حتى على كلام ابن حجر، نعم الله -جل وعلا- حرم مكة، وما حرم الحرم، نقول: تحريم الحرم معروف، ما جاء في مثل هذا النص يشمل الحرم، لا يعضد شجرها، يعني هل هذا خاص بمكة أو بالحرم كله؟ عام في الحرم كله، لا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها، هذا عام في الحرم كله، وإذا كان مكة أصغر من حدود الحرم في وقت من الأوقات فقد يأتي وقت من الأوقات أن مكة حدودها تتعدى الحرم، فليس هذا حل، ورفع للإشكال، والإشكال باقي، وكل على أصله، فالذين يقولون بجواز القصاص في مكة وفي الحرم يقولون: إن هذا بحق، وما كان بحق يكون مطلوب شرعاً، يعني هذا القصاص مطلوب شرعاً، إقامة الحدود مطلوبة شرعاً، فهل من تعظيم الله إقامة شرع الله في الحرم، أو ليس من تعظيم الله؟ نعم من تعظيم حدود الله إقامتها في أي مكان كان، هذه حجة الجمهور يقولون: ما دام أذن فيه شرعاً، بل طلب شرعاً، بل هو واجب من واجبات الشريعة، ما المانع أن يقام في أقدس البقاع؟ والذين يأخذون الحديث على إطلاقه يقولون: يضيق عليه حتى يخرج، فإذا خرج أقيم عليه الحد، لا يطعم ولا يسقى، ثم يضطر للخروج وحينئذٍ يقام عليه الحد، ويبقى أن مكة شأنها عظيم، سواء قلنا بجواز القصاص، وجواز إقامة الحدود، أو قلنا بالقول الآخر أنه لا يقام فيها حتى لا يضيق عليه فيخرج، المقصود أن المسألة خلافية بين أهل العلم.
((لا يعضد شجرها)) لا يقطع الشجر، ولا يختلى الخلاء، الحشيش لا يحتش، والشوك أيضاً لا يقطع، لقطتها لا تحل إلا لمنشد، لمن يريد تعريفها ولا يملكها بحال، ولو حال عليها الحول، ولو عرفت سنة، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقتل هذا القتيل إذا اتفق العصبة على قتله يقتل، النفس بالنفس، وإما أن يفدى إذا تنازلوا عن القتل إلى الدية، يفدى بالدية، أو العفو المطلق لا قتل ولا دية {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [(237) سورة البقرة] إما أن يقتل وإما أن يفدى، هل نقول: إن هذا تقسيم أو تخيير؟ إما أن يقتل إذا كان القتل عمد، وإما أن يفدى إذا كان القتل خطأ أو شبه خطأ، أو نقول: هذا تخيير مرده إلى اختيار أولياء المقتول، إما أن يقتلوا قاتل صاحبهم، أو يأخذوا ديته؟ هاه؟ تفصيل وإلا تخيير؟ تقسيم وتنويع يعني نوعٌ يقتل في قتل العمد، ونوع يفدى في قتل الخطأ وشبه الخطأ، أو نقول: هو تخيير وهو بخير النظرين، نعم تخيير، ولذا قال: ((من قتل له قتيل فهو بخير النظرين)) ما الفائدة من قولنا: تخيير أو تفصيل تقسيم؟ متى تظهر فائدة الخلاف؟ لأن من أهل العلم من يقول: إن قتل العمد فيه القتل، لكن إذا تنازل أولياء المقتول عن القتل إلى الدية ورفض القاتل يدفع الدية يلزم وإلا ما يلزم؟ نعم؟ إذا قلنا: تخيير والمخير أولياء المقتول يلزم القاتل بدفع الدية، لكن إذا قلنا: تفصيل، وهو أن المقتول عمداً يقتل، ولا تأخذ الدية إلا برضاه، برضا الطرفين، إذا اتفقا على ذلك فيكون أخذ الدية من باب الصلح، والمقتول خطاء أو شبه عمد فيه الدية، الكلام واضح وإلا ما هو واضح؟ لأننا إما أن نقول: إما أن يقتل أو يُقتل وإما أن يفدى، فهل الخيار يقتضي أن أولياء الدم لهم أن يتنازلوا إلى الدية، ولو لم يرض القاتل؟ بمعنى أنه لو قيل: أنت قاتل عفونا عن القتل نريد الدية، قال: أنا والله ما عندي دية، تبون الرقبة هذا عندكم، يلزم وإلا ما يلزم؟ ((من قتل له قتيل فهو بخير النظرين)) الضمير يعود على من؟ نعم؟ أولياء المقتول، فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يفدى، فإذا قال: أنا والله ما عندي استعداد، ما عندي دية، وقتل العمد الدية على من؟ على العاقل، أو في مال القاتل؟ في مال القاتل، قال: أنا والله ما عندي استعداد أدفع مائة ألف، ما عندي شيء، إما يسمحون بالكلية بلا دراهم بلا قتل، وإلا هذه الرقبة موجودة، يلزم وإلا ما يلزم؟ مقتضى السياق فهو بخير النظرين، يعني ولي المقتول هو الذي يختار، وحينئذٍ تكون إما أن يقتلوه أو يفدى، بالتخيير، ومن أهل العلم من يقول: إنه للتقسيم، وعلى هذا إذا رفض القاتل عمداً دفع الدية ليس لهم إلا القتل، ويتصور أن الإنسان يرفض يدفع الدية، ما يتصور؟ يتصور يرفض الدية، لا سيما إذا رفعت عليه، يقولون: لم نسمع عن مقتولنا إلا إذا دفع مليون مثلاً، نعم، فيتصور، هل نقول: يلزم بدفع ما يريدون؟ أو نقول: عليه أن يدفع الدية المقررة شرعاً، وما زاد على ذلك لا بد من اتفاق الطرفين؟ أما كونه يعدل إلى الدية فبرضا ولي المقتول، كما هو ظاهر هذا الحديث.
"فقام رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاه" بالهاء بالوقف والدرج "فقال: يا رسول الله اكتبوا لي" وفي هذا الحرص على كتابة العلم وتقييده.
فالعلم صيد والكتابة قيده *** قيد صيودك بالحبال الواثقة
يقول:
فمن الحماقة أن تصيد غزالة *** وتتركها بين الخلائق طالقة
كم ندم، كم ندمنا، وندم غيرنا على أن مر بعض الفوائد التي ما دوناها نذكر أصل الفائدة نريد مراجعتها خلاص فرت، وين تجدها في بطون هذه الكتب؟ كيف تقف عليها؟ لكن لو أنت قيدت وجدتها في أي وقت، وهنا طلب من النبي -عليه الصلاة والسلام- أن تكتب له هذه الخطبة التي سمعها من النبي -عليه الصلاة والسلام-، ففي هذا مشروعية كتابة العلم.
"فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((اكتبوا لأبي شاه))" وهذا إذن بالكتابة بعد المنع منها، فقد ثبت في الصحيح -صحيح مسلم- من حديث أبي سعيد أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، ومن كتب شيئاً غير القرآن فليمحه)) وهذا غير القرآن، وقال: ((اكتبوا لأبي شاه)) إذاً فيه إذن بالكتابة بعد المنع، ثم تتابع الإذن، وأجمع الناس على الكتابة، ونفع الله بالكتابة، وقيدت العلوم، ولولا الكتابة لضاع كثير من العلم، نعم صارت الكتابة على حساب الحافظة، يعني كانت الحافظة قبل الكتابة قوية؛ لأن الناس يعتمدون عليها، ثم بعد ذلك لما أذن بالكتابة لا شك أن لها مردود على الحفظ، وهذا كل إنسان يدركه من نفسه، يعني إذا قال لك زميلك قبل الجوالات: أنا رقمي كذا، وأنت حريص عليه إن كتبته لا بد تراجع المكتوب لن تحفظه، وإذا حفظته خلاص ما تنساه، ولا شك أن الكتابة لها أثر على الحفظ، ويبقى أن فيها نفع عظيم، وقد نفع الله -جل وعلا- بما كتبه العلماء في مصنفاتهم ومدوناتهم.
"ثم قال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر" نبت معروف طيب الرائحة "فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا" وفي رواية: لقيننا، يعني يوقدون به النار، ويجعلونه في خلل البيوت والسقوف في القبور، نعم "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إلا الإذخر))" قام العباس عم النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: يا رسول الله إلا الإذخر، ثم ذكر علة الاستثناء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إلا الإذخر)) هل هذا مجاملة لعمه، يعني لما تكلم النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث هل في باله أن يستثني أو هذا استثناء تلقيني؟ يعني كما يتكلم شخص بكلام يقول قائل: قل -إن شاء الله-، استثناء تلقيني، فإذا قال ذلك نفعه، وهنا قال: إلا الإذخر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إلا الإذخر)) يعني هل هذه مجاملة لعمه؟ لا، والمقرر عند أهل العلم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- له أن يجتهد، فلما رأى حاجتهم إلى استثناء الإذخر استثناه، لهم حاجة، وذكرت العلة، واقتنع منها النبي -عليه الصلاة والسلام- استثناه، ومنهم..، الذين يقولون: إنه لا يجتهد، النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يجتهد، الذين يقولون بهذا القول يقولون: نزل الوحي فوراً بالاستثناء فقال: ((إلا الإذخر)) وعلى كل حال مسألة الاجتهاد منه -عليه الصلاة والسلام- هي قول الجمهور، له أن يجتهد، لكنه لا يقر على الخطأ، وقصة أسرى بدر اجتهد فيها النبي -عليه الصلاة والسلام- وعوتب فيها، والمسألة معروفة عند أهل العلم، نعم.
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه استشار الناس في إملاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى فيها بغرة عبد أو أمة، فقال: "ائتني بمن يشهد معك" فشهد معه محمد بن مسلمة، وإملاص المرأة أن تلقي جنينها ميتاً.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت أحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم، فقام حمل بن النابغة الهذلي فقال: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك يطل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما هو من إخوان الكهان)) من أجل سجعه الذي سجع.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه استشار الناس في إملاص المرأة" يعني إسقاط المرأة جنينها قبل تمامه ميتاً باعتداء معتدٍ، إجهاض مثلاً بسبب، اعتدى عليها شخص بفعل أو تهديد مثلاً، وما أكثر ما يحصل مثل هذا في المستشفيات وغيرها، يصرف لها علاج خطأ مثلاً فيسقط الجنين، أو يقرر تقرير خاطئ من قبل طبيب، ويقرر أنه يسقط هذا الجنين، أو يجتهد اجتهاد خاطئ فيقول: الجنين فيه تشويه وإلا فيه شيء فأسقطيه، كل هذه لا تجوز، وفيها الدية المذكورة، إذا لم يكن الطبيب مشهود له بالخبرة والمعرفة، بعض الناس يجتهد اجتهادات خاطئة، وإذا لم يكن من أهل الفن، وأهل الشأن آثاره تلزمه، أو ضربها أو تسبب في إسقاطها الجنين، عمر بن الخطاب استشار الناس في إملاص المرأة، المسألة شورى في الأحكام الشرعية؟ وش رأيكم؟ أو المقصود به معرفة من عنده شيء من أصل شرعي في المسألة؟ يعني كما يقال عند بحث مسألة: ما تحفظون في هذه المسألة؟ من عنده شيء من الكتاب والسنة يدلي به، والذي يحفظ قول لبعض أهل العلم يدلي به، والناس يذكرون ما عندهم، وهذا موجود في القديم والحديث.
"استشار الناس في إملاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-: شهدت النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى فيه بغرة عبد أو أمة" اعتدى شخص على امرأة فأسقطت جنينها ميتاً قد تبين فيه خلق الإنسان يغرم ديته عشر دية أمه، غرة، عبد أو أمة، عبد أو وليدة، وقيمتها خمس من الإبل، شهد المغيرة بن شعبة عند عمر بن الخطاب، والمغيرة صحابي جليل، وعمر -رضي الله عنه- هو صاحب التحري والتثبت في الدين، صاحب الحيطة، فقال: "لتأتين بمن يشهد معك" هات واحد يشهد معك، وهذا من تحري عمر وتثبته؛ لأن لا يتطاول الناس على التحديث، عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإذا تساهل الناس في هذا الباب ضاع الدين، فلولا احتياط عمر مثل هذا الاحتياط، وأخذه على أيدي الناس، ولا بد أن يوجد في الأمة أهل تحري وتثبت واحتياط، لو تتابع الناس كلهم على التساهل والتيسير انتهوا الناس، يتساهلون في هذا، وهذا يفتيهم بالتساهل في هذا، وهذا يقول لهم: هذا الأمر سهل، والدين يسر، ويخرجون من الدين وهم لا يشعرون، أقول: لا بد أن يوجد في الأمة مثل عمر -رضي الله عنه- من أهل التحري والتثبت، وحمل الناس على العزيمة، وإلا هل عمر لا يقبل الخبر إلا إذا تعددت طرقه؟ ليس بصحيح، المعتزلة استغلوا مثل هذا الاحتياط من عمر، قالوا: خبر الواحد لا يقبل، لا بد أن تتعدد الطرق، وقرروه في كتبهم، قرروا هذا في كتبهم، ورد عليهم أهل السنة بردود قوية، وإذا رد أهل السنة على المعتزلة هل هم يردون على عمر صاحب التحري والتثبت؟ أبداً، عمر يقبل الأخبار من قبل واحد، لكن لا بد أن يوجد منه بعض التصرفات التي تحمل الناس على التثبت، لما استأذن أبو موسى على عمر ثلاثاً ثم انصرف، دعاه فقال: استأذنت ثلاثاً، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((ليستأذن أحدكم ثلاثاً)) قال: لتأتين بمن يشهد لك، مثل هذا، فشهد له أبو سعيد الخدري، والقصة في الصحيح، كهذه، هل نقول: إن عمر يرد خبر الواحد؟ عمر يحتاط للسنة، ويقبل خبر الواحد، لكن أحياناً يحتاج إلى أن يتأكد، ولا بد أن يتحرى، ولا بد أن يربي الناس على هذا، على هذا التحري والتثبت، فإذا رددنا على المعتزلة لا نرد على عمر -رضي الله عنه-، صاحب التحري والتثبت والحيطة للدين، مثل ما قيل في رد الإمام مسلم على من يشترط اللقاء، وشنع عليه، ووصفه بالبدعة، والقول مبتدع ومخترع، والقول يقول به البخاري، على ما نقل عنه من..، واستفاض عنه على ألسنة أهل العلم، هل نقول: إن مسلم يرد على البخاري وهو شيخه؟ ولولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء، لا، مسلم -رحمه الله- يرد على مبتدع، يريد أن يجير احتياط البخاري -رحمه الله تعالى-، وتثبت البخاري لرد السنة، يريد أن ينفذ إلى تحقيق بدعته من خلال احتياط البخاري، والمعتزلة نفذوا إلى تقرير بدعتهم من خلال قول عمر، فإذا رددنا على المعتزلة لا نرد على عمر، وإذا رد مسلم على هذا المبتدع الذي يريد أن يستغل احتياط البخاري -رحمه الله- في رد السنة فهو لا يرد على البخاري.
"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت أحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وما في بطنها فاختصموا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فقضى رسول -صلى الله عليه وسلم- أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها" قتلتها وما في بطنها، رمت إحداهما الأخرى بحجر، قتل عمد هذا أو شبه عمد؟ نعم؟ هنا قتلتها فاختصموا، قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن دية الجنين غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، على عاقلة القاتلة "وورثها ولدها ومن معهم" لأن هذا قتل شبه عمد؛ لأنها رأت أن هذا الحجر ما يقتل، فهو شبه عمد "فقام حمل بن النابغة الهذلي" وهو مطالب بالدية، هو من العاقلة "فقال: يا رسول الله كيف أغرم؟" يدافع عن نفسه، يريد أن لا يدفع شيء "كيف أغرم من لا شرب ولا أكل؟" من البطن طاح ما بعد صار شيء "من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل" يعني ما صرخ، ولا أتكلم ولا شيء "فمثل ذلك يطل" يهدر، هذا ما يستحق دية، هذا مثل قطعة دم أو قطعة لحم ما لها قيمة "فمثل ذلك يطل، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((إنما هو من إخوان الكهان)) من أجل سجعه الذي سجع" السجع إذا أُستعمل في إبطال الحق كما هنا، ونصر الباطل مذموم، يشبه سجع الكهان، وإن كان السجع في بيان الحق، ونصر الحق مطلوب؛ لأنه كلام، اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ودعاء لا يسمع، أسجاع، وجاء السجع في كلامه -عليه الصلاة والسلام-، لكنه غير متكلف، ويراد به إقرار الحق وإحقاقه لا إبطاله كما هنا، وإنما يذم السجع إذا كان لنصر الباطل كالبيان ((إن من البيان لسحراً))....